تمتلك الولايات المتحدة الأميركية، بُنية مُعقّدة من وكالات وأجهزة الاستخبارات، تتمتع بصلاحيات غير محدودة ونفوذ هائل وميزانيات جيوش ودول. فعلى مَرّ السنوات، استثمرت الحكومات الأميركية مئات مليارات الدولارات، في المجال الاستخباراتي، لما يمنحها من تفوّق، رادع للأخطار والخروقات، ولما يُشكّله من رافعة على الساحة الدولية. إلّا أن وضع هذه القدرات الاستثنائية، بين يدي هذه الشبكة من الوكالات والأجهزة الاستخباراتية، جعل منها في كثير من الأوقات عبئاً، لا يمكن ضبطه والسيطرة عليه.
ما هو «مجتمع الاستخبارات» في الولايات المتحدة؟
يتشكّل «مجتمع الاستخبارات» في الولايات المتحدة، من تحالف 18 كياناً استخباراتياً، تتوزع على الشكل التالي:

ــــ كيانان مستقلتان، وهما: «مكتب مدير الاستخبارات الوطنية» (ODNI)، و«وكالة الاستخبارات المركزية» (CIA).

ــــ تسعة تشكيلات تتبع لوزارة الدفاع، وهي: «وكالة استخبارات الدفاع»، «وكالة الأمن القومي» (NSA)، «وكالة استخبارات الجغرافيا المكانية»، و«مكتب الاستطلاع الوطني». ويُضاف إلى ما سبق، استخبارات القوات العسكرية، وهي استخبارات: الجيش، البحرية، مشاة البحرية، القوة الجوية والقوة الفضائية.

ـــ سبعة تشكيلات تتبع لوزارات أخرى، وهي: وزارة العدل: فرع استخبارات «مكتب التحقيقات الفدرالية» (FBI)، ومكتب استخبارات «إدارة مكافحة المخدرات». وزارة الأمن الداخلي: مكتب الاستخبارات والتحليل، واستخبارات «خفر السواحل». وزارة الخارجية: مكتب الاستخبارات والأبحاث. وزارة الخزانة: مكتب الاستخبارات والتحليل. وزارة الطاقة: مكتب الاستخبارات ومكافحة التجسس.

يخدم «مجتمع الاستخبارت»، بحسب «قانون الأمن القومي» – 1947 وتعديلاته، الرئيس، مجلس الأمن القومي، رؤساء الوزارات والوكالات التي تُشكّل الذراع التنفيذية للدولة، رئيس هيئة الأركان المشتركة وضباط الجيش رفيعي المستوى، وأخيراً، مجلسي النواب والشيوخ.

يرأس «مجتمع الاستخبارات»، مدير «الاستخبارات الوطنية»، إذ يعمل كمشرف على صرف الميزانية المُقرّرة للبرنامج الوطني للاستخبارات، ويُنسّق من خلال المدراء والمساعدين في مكتبه في ما بين جميع التشكيلات الاستخباراتية، لدمج ما لديها من معلومات، واستخدامها في حماية الأمن الداخلي ومصالح الدولة خارج الحدود. يُعيّن مدير «الاستخبارات الوطنية» من قبل الرئيس، بعد موافقة مجلس الشيوخ على الاسم، ويخدم كمستشار للرئيس في ملفات الأمن القومي.

مديرة «مكتب الاستخبارات الوطنية» أفريل هاينز مع مدير «وكالة الأمن القومي» بول ناكاسوني

تعمل جميع التشكيلات المكوّنة لـ«مجتمع الاستخبارات»، في نطاق اختصاصها، أو في خدمة مهام الجهات العسكرية والأمنية وقوى إنفاذ القانون وإدارات الدولة المتنوعة التابعة لها. ويُعتبر الأشهر، من بينها: «وكالة الاستخبارات المركزية» - الاختصار: «سي آي آي CIA»، و«وكالة الأمن القومي» – الاختصار: «أن أس آي NSA». فما هي المهمات التي تشغلُها هاتان الوكالتان؟

«وكالة الاستخبارات المركزية»
هي وكالة الاستخبارات الخارجية، في الولايات المتحدة، تأسست سنة 1947، خلال ولاية الرئيس هاري ترومان، لتحلّ محل «مكتب الخدمات الاستراتيجية» الذي تأسس خلال عهد الرئيس فرانكلين روزفلت. هي وكالة مستقلة بالكامل، يُعيّن مديرها من قبل الرئيس، بعد موافقة مجلس الشيوخ على الاسم. تقوم بمهمة جمع المعلومات عن الأهداف الأجنبية، وتحليلها، من مصادرها البشرية في الميدان، وعبر استخدام مواردها المتنوعة.

وأيضاً، تقوم بتنفيذ عمليات سريّة، سياسة أو شبه عسكرية، في الخارج، بأمر مباشر من رئيس الدولة. أما في داخل الولايات المتحدة، هي ليست قوة إنفاذ قانون، ولكنّها تتعاون مع الوزارات وقوات إنفاذ القانون المختلفة، في قضايا عديدة، أبرزها مكافحة التجسس ومكافحة «الإرهاب».

تُعتبر «سي آي آي»، وكالة الاستخبارات الأشهر في العالم، وتُصنّف من بين أهم وكالات الاستخبارات العالمية، والأكثر حرفية. يُرمز لها، أيضاً، إلى جانب الأحرف الأولى من اسمها، بـ«لانغلي»، وهو اسم المنطقة التي يقع فيه المقر الرئيس لها، في ولاية فيرجينيا الأميركية.

المدير الحالي لـ«CIA» وليام بيرنز داخل «لانغلي»

«وكالة الأمن القومي»
وكالة استخباراتية تتبع لوزارة الدفاع، أنشأها الرئيس هاري ترومان في العالم 1952. يقع على عاتقها مسؤولية استخبارات الإشارة (SIGINT – Signal Intelligence)، وتُعتبر الأهم عالمياً، في هذا المجال. إذ يدور عملها حول اعتراض الإشارات الإلكترونية الواردة من الأهداف الأجنبية (الأهداف: أنظمة اتصالات، رادرات، أنظمة إلكترونية للأسلحة... إلى آخره. الأجنبية: أفراد، منظمات وقوى عالمية.)، والعمل على معالجتها أو فك شيفرتها، واستخلاص المعلومات الاستخباراتية منها، من أجل تقديمها للمعنيين.

لـ«وكالة الأمن القومي»، مهمّة أخرى، ألا وهي، حماية الاتصالات الحكومية، وشبكة بياناتها ومعلوماتها، من أية عملية اختراق إلكترونية.

«الاستراتيجية القومية للاستخبارات الوطنية»: الوظائف والأهداف
كلّفت آخر نسخة (2019) من «الاستراتيجية القومية للاستخبارات الوطنية»، «مجتمع الاستخبارات»، بالوظائف التالية: المتابعة الدائمة لملفات الأمن القومي (استخبارات استراتيجية)، الكشف عن المخاطر الجديدة والثّغرات وتحديدها (استخبارات استباقية)، ودعم العمليات الجارية.

كما حدّدت له أربع مهمات أساسية، كي يعمل عليها، وهي: التهديدات السيبرانية، مكافحة «الإرهاب»، مكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل، ومكافحة التجسس. تصدر «استراتيجية الاستخبارات» كل أربع أو خمس سنوات، عن مكتب مدير «الاستخبارات الوطنية»، ويتمّ فيها تقييم أداء وكالات وأجهزة الاستخبارات، تحديد المطلوب لتطويرها، وتحديد الأولويات والأهداف التي ينبغي التركيز عليها، خلال المرحلة المقبلة.

ميزانية الاستخبارات: قفزات بمليارات الدولارات
تشمل ميزانية الاستخبارات، برنامجي الاستخبارات القومية والاستخبارات العسكرية. إذ يندرج تحت الأول جميع البرامج والمشاريع والأنشطة الاستخباراتية لـ«مجتمع الاستخبارات»، أما الثاني فيشمل الأنشطة الاستخباراتية التي تُنفّذ لدعم العمليات التكتيكية العسكرية.

بلغت ميزانية الاستخبارات للعام 2020، 85.8 مليار دولار، 62.7 مليار دولار للبرنامج الأول، و23.1 مليار دولار للبرنامج الثاني. وهي الميزانية الأعلى في تاريخ الولايات المتحدة. كان العام 2007 هو العام الأول الذي تنشر فيه الولايات المتحدة، ميزانية استخباراتها. وقد كانت الميزانية في حينها تبلغ، 63.5 مليار دولار، وهو ما يعني أنها زادت بأكثر من 20 مليار دولار خلال أقلّ من 15 عاماً.

وللتدّليل على حجم النشاط الاستخباري الأميركي مقارنة ببقية دول العالم، تنفق الولايات المتحدة على استخباراتها، أكثر مما تنفق أي دولة في العالم على جيشها، ما عدا الصين.

كذلك، يزيد الإنفاق الأميركي على الأنشطة الاستخباراتية، عن الناتج المحلي الإفرادي لما يزيد عن ثلثي دول العالم.

ووفق أرقام نشرها موقع «ويكيليكس»، تُخصّص الحكومة لـ«وكالة الاستخبارات الأميركية»، قرابة 15 مليار دولار، وهو ما يقترب من ميزانية الجيش الإسرائيلي. ووفق «ويكيليكس»، أيضاً، وصلت أعداد موظفي أجهزة الاستخبارات في العالم، خلال العام 2009، حينما كانت ميزانية الاستخبارات نحو 75 مليار دولار، إلى 200 ألف موظف ومتعاقد.

وفي العام 2010، نشرت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، تحقيقاً حول أجهزة الاستخبارات الأميركية، كشفت فيه، امتلاك 854 ألف شخص (عسكريون، موظفون مدنيون ومتعاقدون)، تصاريح أمنية، في الولايات المتحدة. وأشارت إلى وصول أعداد المنظمات الحكومية العاملة ضمن برامج الاستخبارات إلى 2271 منظمة حكومية، وعدد الشركات الخاصة المتعاقدة مع وكالات وأجهزة الاستخبارات إلى 1931 شركة خاصة.

على الرّغم من كل تلك الإمكانيات والميزانيات المهولة، إلّا أن الولايات المتحدة لا تعتمد على قدراتها الفردية فقط، فقد بنت على مَرّ السنوات روابط استخباراتية مع دول أخرى، اتخذت أشكالاً متعددة ومستويات مختلفة، إذ تتعاون الاستخبارات الأميركية مع أجهزة استخبارات مختلف الدول المتحالفة معها، وتحديداً تلك التي تستضيف تواجداً عسكرياً أميركياً، أو تلك التي ساهمت الولايات المتحدة في بناء قدراتها العسكرية والأمنية والاستخباراتية.

ومن بين الدول التي تتعاون الاستخبارات الأميركية معها، حلفاء استراتيجيين، تتموضع أجهزة استخباراتهم في رأس قائمة «أجهزة الاستخبارات الأهم في العالم»، كالاستخبارات البريطانية الخارجية «أم آي 6»، والاستخبارات الإسرائيلية الخارجية «موساد». ولا يقتصرُ التعاون الاستخباراتي الأميركي على العلاقات الثنائية فقط، إذ تنضوي الولايات المتحدة ضمن تحالفات جماعية، أبرزها تحالف «العيون الخمس Five Eyes»، الذي يضم إلى جانبها، بريطانيا وكندا ونيوزيلندا وأوستراليا.

سجلٌ حافل بالـ«الأعمال القذرة»
لطالما ارتبط اسم الاستخبارات الأميركية، عبر العالم، بـ«الأعمال القذرة». إذ يُنسب لها، الوقوف وراء سلسلة طويلة من عمليات الاغتيال، والانقلابات العسكرية، والثورات «الملونة»، بالإضافة إلى دعم العديد من الحركات الانفصالية، والتيارات العُنفيّة، بُغية ضرب استقرار الدول التي تتعارض مصالحها مع مصالح حكومة الولايات المتحدة. كذلك، ارتبط اسم الـ«سي آي آي»، فيما بعد أحداث 11 أيلول 2001، بـ«السجون السرية» وأساليب التعذيب «الوحشية»، لانتزاع الاعترافات من المعتقلين.

التّسريب الأكبر في تاريخ الاستخبارات
في حزيران 2013، كانت حكومة الولايات المتحدة في موعد مع التّسريب الأكبر، في تاريخ استخباراتها، بعد أن قام الأميركي إدوارد سنودن، المتعاقد مع «وكالة الأمن القومي»، والموظف السابق في «وكالة الاستخبارات المركزية»، بتسريب عشرات آلاف الوثائق، المُتعلّقة ببرامج المراقبة والتجسس التي تستخدمها «وكالة الأمن القومي» في عملها.

هذه الوثائق المُسرّبة، أثبتت استغلال الوكالة الأميركية لمخدّمات الإنترنت، والأقمار الاصطناعية، وكابلات الألياف البصرية الممدودة تحت الماء، وأنظمة الهواتف المحلية والأجنبية، والحواسيب الشخصية، من أجل تنفيذ عمليات مراقبة جماعية وعشوائية، داخل أراضي الدولة وخارجها. وقد استخدمت بعض برامج المراقبة، وفق الوثائق المسرّبة، لأهداف لا علاقة لها بالأمن القومي، وإنما لغايات التجسس الاقتصادي والدبلوماسي.

في المُلخّص، ووفق ما كتب غلين غرينوالد، في كتابه «لا مكان للاختباء»، وهو الصحافي في صحيفة «الغارديان» البريطانية، الذي سلّمه، سنودن، نسخة كاملة عن الوثائق المسربة: «بنت الحكومة الأميركية نظاماً لديه هدف واحد، وهو الإزالة الكاملة للخصوصية الإلكترونية في العالم بأكلمه، بعيداً عن المبالغة. إن الوكالة مُكرّسة لمهمة واحدة: الحيلولة دون تَملّص أقلّ البيانات من الاتصالات الإلكترونية من قبضتها المنظومية، مهما كانت ضئيلة».