في نهاية العام الماضي، صدرت عن مؤسسة «مهجة القدس» في غزة، مذكرات الشيخ بسام السعدي، تحت عنوان «قبس من نور المسيرة»، حررها الصحافي والكاتب الفلسطيني عصري فياض. تقع المذكرات في 236 صفحة (مع ملحق صور)، موزعة على 12 فصلاً، حاولت رسم معالم حياة السعدي، وتجربته النضالية التي لا تزال ماثلة حتى هذه اللحظة.قراءة مذكرات الشيخ السعدي تختصر التجربة الفلسطينية من كل جوانبها، هذا الاختصار يتجسد بتجربة تفعل فعلها على الأرض، فصاحبها يعيشها حتى هذه اللحظة، متنقلاً ما بين السجن والمطاردة، في ثنائية متواصلة، لم تنقطع منذ أكثر من أربعة عقود، تخللها تجربة الإبعاد إلى لبنان، مطلع تسعينيات القرن الماضي.
الراوي بسام، يتنقل بتجربته منذ بداياتها، مطلع الصبا في مخيم جنين، مع الاعتقال الأول في منتصف سبعينيات القرن الماضي، مروراً بالبحث عن الذات واكتشاف الفكرة والرؤية التي انتمى إليها مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ومن ثم مواصلة مسيرته الكفاحية حتى هذا الوقت.
ورغم الألم الذي يصاحب الراوي، إلا أننا نجد في شخصه صلابة وقوة وعزيمة على مواصلة الطريق.

إرهاصات فكرية توجت بالانتماء
رغم انتماءاته الدينية المبكرة، إلا أن السعدي كان مسكوناً بالتجربة النضالية للثورة الفلسطينية، التي كانت تعيش ذروتها في ذلك الوقت، ويوضح الكتاب ما رآه الشيخ السعدي بانتصار الثورة الإسلامية في إيران، إذ زاد التمسك بعملية البحث لما رآه هو «والكثيرون من الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية من أمل في عودة الإسلام كمنهج حياة في مقاومة الظلم والاستعمار والصهيونية». ومن المحطات المهمة في رحلة السعدي، زيارته إلى مدينة غزة في بدايات الثمانينيات، مع بعض الأصدقاء منهم الشيخ خالد جرادات الذي صحبه معه، فكان اللقاء الأول مع القادة المؤسسين، الشيخ عبد العزيز عودة الذي استمع إلى خطبته في مسجد عز الدين القسام، والتقى فيه بالدكتور فتحي الشقاقي الذي غادر لالتزامات لديه، وكان هذا اللقاء بالنسبة إلى الشيخ بسام حسماً له في قرار الانتماء، فقرن ما قرأه بمجلة «الطليعة» بما رآه من سلوك من الشيخ عودة والدكتور الشقاقي والتفاف الناس حولهما، ليكون الشيخ السعدي بعد هذه الزيارة «أول منتم رسمياً لهذه الحركة في مدينة جنين ومخيمها».

السعدي بين انتفاضتين
مع اندلاع الانتفاضة الأولى، كان السعدي على موعد الانخراط بها، وعلى الرغم من عمله الذي اقتصر على الاجتماعي والإغاثي، إلا أنه لم يسلم من الاعتقال الدائم والمستمر، الأمر الذي أفضى به إلى اختيار المطاردة لسنوات طويلة، بهدف البقاء داخل الحاضنة الشعبية التي آوته، فـ«التنكيل القاسي والحاقد، وأثره الكبير في جسد الشيخ بسام؛ سبباً لمطاردته الأولى التي استمرت من شهر أغسطس (آب) من عام 1988، إلى شهر أبريل (نيسان) من عام 1991، أي لمدة اثنين وثلاثين شهراً متواصلاً».
في العام 1992، اتخذت حكومة الاحتلال قراراً يقضي بإبعاد 417 فلسطينياً إلى لبنان، كان الشيخ بسام السعدي من ضمنهم. يروي في الكتاب المعاناة التي حلت بهم أثناء فترة الإبعاد، وفي الوقت نفسه التجربة الغنية التي اكتسبها خلال تلك الفترة، ليعود بعدها إلى مخيم جنين، متجهزاً مرة أخرى لإكمال الطريق.
صيغت المذكرات بهدف إلقاء الضوء على حقيقة الصراع في فلسطين بالدرجة الأولى، والتي تجسدت بتجربة قائد تحول بفعل جهاده الدائم والمستمر إلى أيقونة للمقاومة الفلسطينية


العلاقة مع السلطة
من الطبيعي أن يحاول الشيخ بسام بصفته قائداً لحركة ترفض كل مخرجات اتفاق «أوسلو»، أن يقدم رؤية عملية للتعامل مع السلطة التي انبثقت من هذا الاتفاق، فالاحتلال هو العدو الأساسي والمركزي، والصراعات الداخلية الفلسطينية، تحل بالحوار، ففي الكثير من المواضع في متن المذكرات، يتناول الشيخ طبيعة العلاقة مع السلطة التي اتسمت بالتعامل مع قضايا واحتكاكات ميدانية، كانت تعالج بالحوار لا الصدام، توجت تلك التفاهمات الضمنية، بانتفاضة الأقصى، حيث عمل الشيخ على تبريد العلاقة بين حركته والسلطة، مدفوعاً بوجود تيار فتحاوي كبير، يعمل على تفعيل المقاومة المسلحة.

الانقسام الفلسطيني ووثيقة الأسرى
لعب الشيخ بسام دوراً محورياً في صياغة وثيقة الأسرى عام 2007، وكان الهدف منها، وفق ما جاء في المذكرات «إيقاف الاقتتال والتناحر بين الفصيلين الكبيرين "فتح" و"حماس"، وتكوين ملتقى جامع بين فصائل العمل الوطني والإسلامي»، وهذا يفسر إلى حد بعيد، خطاب الوحدوي، والحريص على الدم الفلسطيني، انطلاقاً من رؤيته الجامعة، وقدرته على استشراف الأمور، فلا السلطة في الضفة قادرة على الخروج من أسر «أوسلو»، وكذلك الأمر في غزة. فالسلطة مرهونة بتفاهمات إقليمية تكبلها، وتمنعها من الانخراط الفعلي في مسار المقاومة، التي حضرت في الضفة عبر كتائبها المقاتلة، لتكون جنين ومخيمها عنوان اللحظة المتجددة، ويكون السعدي علماً من أعلامها.

«وحدة الساحات» معركة الوجود الفلسطيني
في بداية شهر آب من العام الماضي، كان الاعتقال الأخير للسعدي، لكن هذا الاعتقال تميز بردود فعل للمقاومة الفلسطينية، حين دخلت غزة بمقاومتها على خط النار، بمعركة استمرت ثلاثة أيام، أحد عناوينها مصير السعدي، باعتباره قائداً لـ«الجهاد الإسلامي» في الضفة الغربية، حيث تسربت صور للشيخ، لحظة اعتقاله، تفيد بأنه تعرض للاعتداء أثناء اعتقاله، ومع استمرار المقاومة في غزة والضفة، تمت تسمية المعركة بـ«وحدة الساحات»، والتي لا تزال حتى هذا الوقت، العنوان الأساسي الجامع للكل الفلسطيني.
صحيح أن الإعلام قام بتسليط الضوء على تجربة السعدي في الاعتقال الأخير، فالشيخ معروف لدى الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة، لكن إلقاء الضوء على هذه الشخصية النضالية الفذة في هذا الوقت، الذي ترتسم فيه ملامح انتفاضة ثالثة، ظهرت بواكيرها الأولى في مسقط رأسه بمخيم جنين، يدل على أثر القائد في وعي شعبه ومناضليه، وقد أصدرت محاكم الاحتلال العسكرية الشهر الماضي، حكمها على الشيخ بسام، بالسجن 22 شهراً، وهو حتماً عائد إلى حضن شعبه، ليكمل ما بدأ.

المذكرات شهادة للأجيال
من الواضح أن المذكرات صيغت بهدف إلقاء الضوء على حقيقة الصراع في فلسطين بالدرجة الأولى، والتي تجسدت بتجربة قائد تحول بفعل جهاده الدائم والمستمر إلى أيقونة للمقاومة الفلسطينية، وأحد عناوين الوحدة الميدانية لمختلف القوى السياسية الفلسطينية. فالسعدي يمثل اليوم المقاوم والمناضل والمثقف العضوي المنخرط بقضايا شعبه حد التماهي، فهو الأسير الطريد، سليل عائلة مناضلة، قدمت الشهداء على مذبح الحرية، وهو والد الشهيدين إبراهيم وعبد الكريم، ومنه تؤخذ الدروس والعبر، ومنه أيضاً نرى فلسطين التي نريد.