عشية حرب 1967، أراد الدبلوماسي في السفارة الإسرائيلية لدى واشنطن إفرايم إيفرون، أن يعرف لماذا يدعم القوميون السود فلسطين بدلاً من إسرائيل، لذا دعاه الكاتب اليساري بول جاكوبس للقاء بعضهم في لوس أنجلوس. تلقّى الإسرائيلي نقداً واسعاً على حروب إسرائيل منذ حرب السويس 1956، وقالوا إن العرب يدعمون الشعوب الملوّنة في جميع أنحاء العالم. وكانت معظم تعليقاتهم نقداً للجالية اليهودية التي جمعت أموالاً من القوى العاملة السوداء، وأرسلتها إلى تل أبيب لاستغلالها في أعمال عدوانية.يؤكد اللقاء أن التشطاء السود كانوا مُراقبين بحرص للصراع في الستينيات والسبعينيات، وفسّروه بطرق مرتبطة بهم وبحياتهم وبأولوياتهم. ولقد كُتب الكثير عن النضال من أجل الحرية للسود، ومع ذلك تم تجاهل ارتباط الأميركيين السود بصراع فلسطين، والطرق التي أثّر بها عليهم وعلى تصورهم للهوية إلى حد كبير. ولقد قام النشطاء السود، مثل مارتن لوثر كينغ جونيور ومالكولم إكس وجيسي جاكسون، بزيارة لسطين، وأصدروا تصريحات علنية حول الصراع، كما زار مسلحون من «الفهود الأسود» (BPP)، وممثلو الكونغرس السود، وحتى الملاكم محمد علي، المنطقة، خلال تلك الفترة المضطربة، حيث التقوا بقيادات فلسطينية، أبرزها ياسر عرفات. وأصدرت مؤتمرات سياسية سوداء بيانات مهمة تدعم فلسطين، كما سلّطت حركة الفنون السوداء الضوء على الفلسطينيين.

عكس الجدل الأسود حول دعم فلسطين أو إسرائيل، نقاشات أعمق بكثير حول العرق والهوية والعمل السياسي حينها، وأصبحت كيفية التعامل مع الصراع، ليست مجرد حدث إخباري عن الشرق الأوسط البعيد، بل إحدى أكثر المسائل أهمية التي تواجه الأميركيين السود، ونتيجة لذلك انتهى الأمر بانحيازهم إلى طرف أو آخر، ما أثّر بعمق، ليس فقط عليهم، بل على نطاق أوسع، على السياسة والمجتمع الأميركيَّيْن.
على سبيل المثال، كانت حركة «القوة السوداء» في الستينيات، أول مَن أعلن تأييد فلسطين ومعاداة إسرائيل، وساهمت في نشر القضية لتصل إلى جمهور أميركي كبير خارج اليسار المتشدد. وانطلاقاً من مناهضتهم الدولية للإمبريالية، تمسك المناضلون السود بالقضية الفلسطينية كنضال تحريري آخر، يخوضه شعب ملوّن يستحق الدعم. ولقد رأوا أنفسهم والفلسطينيين شعوباً ملوّنة، تشن ثورة ضد نظام القمع العالمي. وفي أثناء تضامنهم مع الفلسطينيين كشعب يقاتل من أجل التحرر، تماماً كما يفعل السود، أصبح هؤلاء النشطاء أيضاً يربطون هويتهم ورؤيتهم لأميركا بنضال الفلسطينيين.
نفهم مِن أن تهديد حركة «القوة السوداء» للمجتمع المتعدد الأعراق، أدى إلى انحياز معظم المدافعين عن الحقوق المدنية بقوة إلى إسرائيل أثناء حرب 1967 وبعدها. كان ذلك سلوكاً أكثر أماناً وأكثر تقليدية «داخل النظام»، ويعكس رؤاهم الأكثر تحفظاً على الهوية وسياساتهم الأوسع، عن تغيير النظام، لا إسقاطه. وهذا هو سبب أهمية موقف المرء من الصراع العربي الإسرائيلي، والذي نتج عنه ظهور جناحين للنضال الأسود من أجل الحرية. ولم يكن ذلك فقط لأن السود لديهم وجهات نظر مختلفة حول القضية، إنما أيضاً لأن الصراع أصبح نقطة مرجعية حاسمة، أنشأوا من خلالها وصاغوا رؤاهم الخاصة للهوية والمكان والنضال في أميركا.
يستكشف كتاب «القوة السوداء وفلسطين» (Black Power and Palestine: Transnational Countries of Color - Stanford Studies in Comparative Race and Ethnicity) للمؤرّخ مايكل فيشباك، كيف أصبح الصراع العربي الإسرائيلي مرتبطاً بالطريقة التي تطور بها نضال السود من أجل الحرية في أميركا خلال الستينيات والسبعينيات. وكيف ساهم هذا الصراع في اعتبار حركة «القوة السوداء» الصاعدة نفسها جزءاً من صراع ثوري عالمي، وليست مجرد حملة إصلاح داخلي. حتى اعتقد نشطاء «القوة السوداء» بشدة أنهم جزء من معركة أوسع ضد الإمبريالية والاستعمار الاستيطاني الأبيض الموجّه ضد الفلسطينيين.
ينطلق فيشباك مِن لحظة حرب 1967، التي دفعت «القوة السوداء» إلى تبني القضية العربية علانية. ولم يكن دعم الفلسطينيين لأنهم مقاتلو عالم ثالث، بل أيضاً لقرب فلسطين من أفريقيا، وحقيقة أن الفلسطينيين بعضهم من المسلمين مثل بعض الأميركيين السود، وأنهم كانوا يكافحون ضد دولة مدعومة من الولايات المتحدة، وكل ذلك ساعد في جعل قضية الفلسطينيين قريبة إلى قلوب العديد من دعاة «القوة السوداء».
شكّل النضال الفلسطيني نظرة المقاتلين السود إلى أنفسهم. كما عكس الفلسطينيون صورتهم ومفهوم الهوية الذي كانوا يصنعونه، ومفاده: المستَعمَرون الملوّنون يحاربون ضد الاضطهاد الأجنبي. وبذلك، أرادوا قلب هياكل السلطة القائمة التي استعبدتهم. وأصبح الوقوف إلى جانب المقاومة الفلسطينية شرطاً لا غنى عنه للراديكاليين السود، الذين كانوا يعتبرون أنفسهم ثواراً.
أراد السود في أميركا الشيء نفسه الذي أراده رفاقهم الملوّنون في الخارج، حيث رأوا السياسة المستقلة وسيلة حاسمة في التحرر، لكن لا يجب في أي وقت النظر إلى هذا التطور بمعزل عن المطالب المماثلة التي تُسمع في جميع أنحاء العالم. فالسود والملوّنون ينوون أن يقرروا بأنفسهم أنواع الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي سيعيشون في ظلها. ويعني هذا بالضرورة أن الأنظمة الحالية للمجموعة المهيمنة والقمعية -الطيف الكامل للقيم والمعتقدات والتقاليد والمؤسسات- يجب تحديها وتغييرها.
استاءت مجموعات «القوة السوداء» أيضاً بشدة مما اعتبرته فكراً أبوياً أبيضَ. وسعت إلى إنشاء منظمات ومنتديات ثقافية مستقلة. وطالبت أيضاً بالحق في التحدث علناً بشأن مسائل السياسة الخارجية الأميركية، وهو الأمر الذي كان تاريخياً مجالاً للنخب البيضاء، ولم تهتم كثيراً إذا ما أثار دفاعها عن الفلسطينيين غضب المؤيدين البيض لإسرائيل، ولا سيما اليهود الأميركيين، الذين كانوا تقليدياً حلفاء لنضال السود من أجل الحرية.
على طرف النقيض، انحازت مجموعات الحقوق المدنية التقليدية إلى جانب الصراع العربي الإسرائيلي حينها بطرق عكست تصوراتها الخاصة للهوية والعمل السياسي في أميركا. التيار الأسود رأى القادة أنفسهم على أنهم يفتحون الباب أمام المساواة المدنية، وليس كمحاولة لإطاحة النظام، كما رددوا أيضاً المواقف التي يتبناها العديد من الأميركيين، بأن إسرائيل معقل ديموقراطي، متعددة الأعراق، تقاتل ضد العرب الرجعيين المدعومين من السوفيات.
وتضمّن جزء من النضال من أجل الحقوق المدنية التعاون مع البيض، ولا سيما اليهود، الذين كان دعمهم المالي وآراؤهم مهمة. لذلك، كان دعم القضايا القريبة لأولئك الحلفاء مصدر قلق حيوي. وكان لمنظمات السود التقليدية أولويات أخرى أيضاً. وأراد كلاهما الحفاظ على تركيزهما على العمل ضد العنصرية، وتجنب توليد النقد غير الضروري الذي يمكن أن يضعف فعاليتهما في التعامل مع المسائل العرقية من خلال التحدث علناً عن مسائل السياسة الخارجية. ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، اعتقدت هذه الجماعات أنها اضطرت إلى إصدار بيانات حول الصراع من أجل الابتعاد عن مجموعات «القوة السوداء» التي كانت تهاجم إسرائيل، حيث مثّلت هذه الأصوات تحدياً إيديولوجياً وعملياً من الدرجة الأولى.
بالنسبة إلى جماعات الحقوق المدنية، أصبح الصراع بمثابة خط صدع حقيقي، يفصل بين المقاربتين لتأمين مستقبل عادل للأميركيين السود. خلص فيشباك إلى أن الاختلاف في المواقف بين هذين المقاربتين جزئياً كان بين قادة الحقوق المدنية البرجوازيين الأكبر سناً مقابل مناضلي «القوة السوداء» الأصغر سناً والأكثر ثورية. حيث عملت منظمات السود التقليدية طويلاً، وبجد، من أجل العدالة العرقية داخل النظام الأميركي الرأسمالي الليبرالي الذي كان يتعرض للهجوم من قبل أعضاء «القوة السوداء». وكانت الرابطة الوطنية للملوّنين (NAACP) تقوم بأعمال قانونية مضنية منذ عام (1909)، وكان النشطاء في هذه المنظمات من دعاة الاندماج الذين يعملون بلا عنف لفتح أبواب الفرص والمساواة الكاملة. وما لم يدافعوا عنه هو الإطاحة الثورية بالحكومة الأميركية، كما دعت إليه مجموعات «القوة السوداء» مثل حزب «الفهود السود». كما أنهم لم ينظروا إلى الأميركيين الأفارقة على أنهم مستعمرة محلية تحتاج إلى التحرر، وتشكيل دولتها كما فعلت بعض هذه المجموعات الأخرى. كما انعكس نهجهم الأكثر حذراً تجاه مسألة العرق في اختيارهم للحلفاء مثل: النقابات العمالية والمنظمات الدينية والأقليات الأخرى.
يعود صراع فلسطين للصدارة في سياسات الهوية والعنصرية الأميركية في الستينيات، حيث أدى الاستيلاء الإسرائيلي على مساحة شاسعة من الأراضي العربية إلى تضرر كبير للفلسطينيين، الذين يعانون منذ عام 1948، عندما شرّد ما يقرب ثلاثة أرباع مليون من أرضهم فأصبحوا لاجئين. وتسببت حرب 67 في نزوح جماعي آخر في أعقاب القتال، وما نتج عنه من احتلال للضفة وغزة.
أثبتت هزيمة 67 للفلسطينيين أن الدول العربية لن تستطيع أبداً تحرير فلسطين، وسيتعين عليهم خوض هذا النضال بأنفسهم، لتظهر مجموعات حرب العصابات، مثل «فتح» و«الجبهة الشعبية» في دائرة الضوء، وتُعلن أنها ستحرر وطنها مثل الجزائريين والكوبيين والفييتناميين.
كان هذا النضال يتناسب مع الحماسة الثورية الشاملة في الستينيات. وكانت وجوههم الملفوفة بالكوفية وأيديهم تمسك ببنادق هجومية من طراز «AK-47» رمزاً للنضال. وبدأ المقاتلون الفلسطينيون المتحمسون في الاستيلاء، ليس فقط على خيال حركات الاستقلال الأخرى في العالم الثالث، وأيضاً على وسائل الإعلام العالمية. لم يمض وقت طويل حتى استحوذوا على خيال «القوة السوداء»، حيث وضعوا فصلاً هاماً في تاريخ الأميركيين من أصل أفريقي، خلال فترة التغيير الكبير في الحياة الأميركية.
أخيراً، يتعمق الكتاب في سرد قصة المنظمات والأفراد الذين لعبوا أدواراً رئيسية في تعرف السود إلى الصراع خلال الستينيات والسبعينيات، وكيف تغيّر الدعم للفلسطينيين، في غضون فترة قصيرة نسبياً، من أمر عبّر عنه الراديكاليين فقط، إلى ما أصبح جزءاً لا يتجزّأ من السياسة السوداء السائدة.