«مواطنينا، لا يكفي طرد البرابرة الذين سفكوا الدماء في أرضنا طوال قرنين من الزمن، ولا يكفي تكبيل أولئك الذين طالما سخروا من شبح الحرية الذي كانت تتغنّى به فرنسا أمامنا، بل يجب علينا، وكآخر ممارسة للسيادة الوطنية، أن نؤكد للأبد الحرية في البلاد التي ولدنا فيها، يجب أن ننهي أيّ أمل بإعادة استبعادنا من قبل هذه الحكومات اللاإنسانية التي أبقتنا طويلاً تحت وطأة الذل، ففي النهاية إمّا أن نحيا مستقلين أو أن نموت!»[بيان إعلان استقلال هايتي عام 1804 كأول جمهورية سوداء بقيادة ديسالين]

من الممكن إجراء دراسة مقارنة طويلة بين الثورتين الهايتية والفلسطينية، إلا أن غرض هذا النص القصير ليس مجرّد المقارنة، بل تبيان صلة وارتباط تاريخيّ بينهما يمتدّ بنا إلى اليوم، وذلك تحديداً في الإطار الفلسفي. تزامنت الثورة الهايتية مع الثورة الفرنسية، وبينهما علاقة سببية. إلا أن المسألة هنا، هي كيف للثورة الفرنسية، ومن قبلها الأميركية، أن تؤسس نطاقاً فلسفياً مهيمناً، لا يزال حتى اليوم شيئاً أشبه ببداية التاريخ للمثقف الليبرالي العربي، الذي لا يفتأ يجترّ السردية الأكاديمية والفلسفية المهيمنة عن التنوير من جان جاك روسو و«لفياثان» توماس هوبز وثورات الدساتير الغربية ومدى إنسانية إعلان الاستقلال الأميركي ودستور أميركا. ذلك كله رغم أن هذا النطاق الفلسفي للبورجوازية الغربية الصاعدة والحاكمة متصل مباشرةً مع واقع احتدام المشاريع الاستعمارية الغربية على شعوب ما سيسمى لاحقاً بالجنوب أو الأطراف في مقابل المركز. فما يتغافل عنه المثقف العربي الغرباوي، بتعبير هادي علوي، بانتهازية، حقيقة أن مفردات الحرية وحقوق البشر التي أنتجتها الحداثة الأوروبية قائمة على استثنائه، وحين تشير هذه الدساتير إلى حقوق الإنسان والمواطن هي لا تشمله وتشير إلى الرجل الأبيض، وهو أمر يستمر إلى يومنا هذا، وبطبيعة الحال ما يستمر أيضاً، هو الاستعمار الغربي، مع تطوّر أشكاله التاريخية، مع استمرارية آخر أنماطه الاستيطانية الإحلالية في أرضنا العربية في فلسطين.
هذا ما يصلنا بالثورة الهايتية، ليس فقط أنها ثارت على التنوير الأوروبي من بدايته، بل لأنها ومن ناحية فلسفية، سواء في بيان إعلان الاستقلال عام 1804 أو دستورها عام 1805 (والذي ينص بنده الثاني عشر مثلاً على: «لا يحق للرجل الأبيض من أي أمة كانت، أن تطأ رجله هذه الأرض بلقب سيّد أو مالك»)، شكّلت هذه الوثائق النواة لتنوير مضادّ، معادٍ للاستعمار ويرنو إلى استقلال الشعوب السمراء، مؤسسةً لنطاق فلسفي ننتمي إليه نحن، لم يسبقها سوى وعي سكين الشهيد سليمان الحلبي عام 1800، بل حتى إن بعض الباحثين يرون أن الفلسفة الهيغلية وجدلية العبد والسيد، مستوحاة من النضال الأفريقي في هايتي، وهي الجدلية التي سيستمد منها كارل ماركس جدليته المادية.
شكلت هايتي أول حالة «ما بعد استعمار» في العصر الحديث - ولو لوهلة - ولا تزال الجزيرة المتمردة تدفع ثمنه حتى اليوم. فمع نهاية العام المنصرم، كان الأميركيون يطرحون من جديد خيار غزوها للمرة الثالثة خلال قرن ونيّف، بينما أرسلت كندا بارجة حربية لسواحل الجزيرة، وسط تغييب إعلامي مهول (تغييب يشرح، بحد ذاته، القصة).
الفكرة هنا، ليست أن هايتي أوّل من قاتل المستعمرين الأوروبيين، فأثناء قتال الثوار السود للفرنسيين في الكاريبي، كان الليبيون في الطرف الآخر وفي القارة الأفريقية الأمّ، يغرقون سفينة فيلادلفيا الأميركية عام 1803 في أعماق المتوسط؛ انتصار ولّد هزيمة، إذ استغله الأميركيون للتحشيد واحتلال طرابلس الغرب، استعمار لا يزال المارينز يتغنّى به في نشيده الرسمي «من قاعات مونتيزوما إلى شواطئ طرابلس نخوض معارك بلدنا براً وبحراً وجواً» (ولم يردّ العرب الصاع على هذه الهزيمة سوى بعد 180 عاماً، بطرد المارينز من بيروت عام 1983 وترديد نشيد «أين المظلّيون ذاقوا لظى المنون ومعهم المارينز»).
هذا الخطّ الفلسفي الثوري الأفريقي المنبت، هو ما تعيد المقاومة العربية الفلسطينية لملمته منذ التسعينيات


إنّ ما يميز الثورة الهايتية أنها انتصرت، وحاولت تشكيل دستورها الخاص، وطوّرت خطاباً مضاداً، وبالمعنى الحديث كانت نواة فلسفات التحرر من الاستعمار. ففي حين أن نطاق فلسفات الديموقراطيات الاستعمارية الغربية، سيؤول في الأخير إلى إنتاج آخر الكيانات الاستعمارية الاستيطانية، وهو كيان العدو الإسرائيلي، ويكفي هنا الرجوع لتنظير آباء الصهيونية من هرتزل إلى بن غوريون، لمعرفة كيف أن العماد الفكري للصهيونية قائم على الفلسفات الأوروبية، ولا صلة له بالشعوب المستضعفة وثقافاتها، بل يصرحون بواحاً ولأكثر من قرن بأنهم أداة واستمرارية للمشاريع الاستعمارية. والأدهى أن الصهاينة أرسلوا بداية القرن العشرين بعثة إلى شمال كينيا في قلب أفريقيا لدراسة استيطانها، وسبقتها خطط الاستيطان في سورينام على مقربة من هايتي نفسها.
أمّا على المقلب الآخر، فيمتد النطاق الفلسفي الأفريقي المقاوم في هايتي ضد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي إلى آخر البلاد المستعمرة من قبل الرجل الأبيض، وهي فلسطين، وثقافة المقاومة فيها، فبشكل ما، ما بدأه قائد استقلال هايتي جان جاك ديسالين سننهيه نحن.
المثير في هذه الصلة لفلسفة المقاومة، تطابق التعامل الغربي معها بالأدوات والأساليب ذاتها، سواء بأثر رجعي لكيفية قراءة الثورية الهايتية وأحداثها وصناعة رموزها، أو في كيفية التعامل مع الثورة الفلسطينية وهندسة رموزها وتجفيف فلسفتها الثورية. فالقراءة الأوروبية المعاصرة لهايتي تلحقها بنطاق الفلسفات الأوروبية، وهو أمر ليس اعتباطياً بقدر ما هو استغلال للوثة الطبقية لأحد قادتها توسان لوفرتور، وهو الشخصية التي يتم إبرازها كالرمز الأول لنضال هايتي، حين قراءة أيٍّ من الأدبيات حولها. لوفرتور وهبت له الحرية قبل الثورة، بل يتردد أنه هو ذاته امتلك عبيداً، وبعد إمساكه لزمام السلطة أعاد أنماط العبودية ذاتها إلى حقول قصب السكّر، فهو مناضل نجيب بالمعنى التاريخي للمنظور الأوروبي، وخصوصاً في تعامله مع المستوطنين البيض ومساومته، إلى درجة إنقاذه أحد قادة البيض بعدما تمرّد عليه الملوّنون من أنصاف البيض، سمّاه «سبارتاكوس الأسود»، وهو الاسم الذي اتخذه الباحث صدير هازاريزنغ عنواناً لكتابه «سبارتاكوس الأسود الحياة الملحمية لتوسان لوفرتور» (2020). يشير الكتاب إلى هذا المنظور الأوروبي للوفرتور وللثورة الهايتية، كالإشارة إلى لوفرتور بالابن الأسود للثورة الفرنسية، أو عنوان المؤلف الأبرز «اليعاقبة السود» عطفاً على اليعاقبة الفرنسيين، إلى درجة تسميته بونابرت الأسود، وذكر في كتابه أنه «لم يعد توسان يمثل المثل التحررية للمقاومة، بل مجنداً مأسوياً للحداثة الغربية». إلا أن الكاتب نفسه استمر في مجادلة المركزية التاريخية للوفرتور لأسباب عديدة، لا يسع المقام لذكرها، إلا أن أهمها، أنه إن لم تكن هذه الرمزية للوفرتور المساوم والمتسامح وذي القيمة «الأخلاقية»، فستذهب إلى ما تبقيه السردية الغربية في الظل، أي جان جاك ديسالين، النموذج الثوري العنيف والمنفّر للرقي الأكاديمي الغربي.
غزا جيش نابوليون بونابرت هايتي عام 1802، وبعد مقاومة أولية استسلم لوفرتور، ووافق على وقف إطلاق النار، سيطر الفرنسيون من جديد على الجزيرة وأعادوا نظام العبودية. وعلى الرغم من شرط ضمان حريته مقابل الاستسلام، نكث الفرنسيون بالوعد ورحلوه إلى فرنسا، حيث فارق الحياة في السجن. كانت هذه النهاية «الأوسلوية» لولفرتور، ذات وهم الالتحاق السياسي والفلسفي بالأوروبيين، الموازي لوهم «اللحاق» الاقتصادي الذي نظّر له سمير أمين. وهنا بعد تمكّن الفرنسيين من هايتي من جديد، دعا ديسالين رفاقه من جديد إلى حمل السلاح، ليقود سنين دموية من القتال الحاسم والعنف الثوري ضد المستوطنين البيض، حتى خطّ إعلان استقلال هايتي وتحريرها بالكامل. هذا الخط الفلسفي الثوري الأفريقي المنبت، هو ما تعيد المقاومة العربية الفلسطينية لملمته منذ التسعينيات، ونعيش اليوم لحظات مفصلية فيه، عنف ثوري شريطة استمراره وتكثيفه، ولن تكون محصلته سوى طرد البرابرة الذين سفكوا الدماء في أرضنا طوال قرن من الزمن.