تحوّل جوهري للخطاب في الغرب أيّ عمل لفلسطين معرّض للقمع والترهيب

قبل عدة سنوات، خلال حديث عابر في أحد شوارع أوروبا مع فتاة، سألتني من أين أنت؟ فأجبت، كالعادة، أنا عربي. فابتهجت سروراً وأخرجت هويّتها لتريني أن جدها عربي، فلسطيني، ثم استدركت بسرعة، أن لا علاقة لها بفلسطين، وأن هذا كل ما تعرفه، أو سمعته وهي صغيرة، أن جدها أتى من ديار بعيدة تسمى فلسطين. مجرد ما انتهينا من الحديث، وقفت لوهلة ثم استوعبت حقيقة ما حدث، أنني شهدت منذ دقائق معدودة المنتجَ المادي والتاريخي الأخير لمشروع الإبادة الصهيوني، أن يشتّت الشعب الفلسطيني حول العالم، ثم تنتهي صلته بأرضه الأم، فينتهي وجوده، ويباد. ضمن هذا السياق، سئل الشاعر الفلسطيني فواز تركي مرةً حول معنى أن تكون فلسطينياً في الشتات؟ ليجيب «ما دمت تريد العودة، فأنت فلسطيني».
من هذا المنطلق والروحية، تناضل «حركة الشباب الفلسطيني» أو الـ«PYM»، حيث تعرّف عن نفسها بأنها حركة شعبية مستقلة، عابرة للحدود، تجمع شبّاباً فلسطينيين وعرباً في الشتات، غايتهم تحرير الأرض والشعب من براثن المشروع الاستعماري الصهيوني. تنشط الحركة بشكل رئيسي في الولايات المتحدة الأميركية، ولها وجود في كل من كندا وأوروبا، إضافة إلى حضورها المؤثر إعلامياً وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي مكّنها من أن تحجز مكاناً كإحدى أبرز الحركات الفلسطينية في الشتات.
المنسق العام للحركة، حاتم محتسب، يتحدّث إلى «الأخبار» عن نشأة الحركة، ونموّها المتزايد، وصولاً إلى نظرتها وعملها ضمن النضال الفلسطيني. وكذلك، عن التحديات التي تواجه العمل الفلسطيني في الشتات، الذي يخوض، بدوره، معركة صمود أمام هجمة الحركة الصهيونية وداعميها، والتي لم تسلم منها الـ«PYM».

عن البداية: ما بعد أوسلو
«علينا في البداية الرجوع إلى الماضي قليلاً، فمن التبعات الكارثية لأوسلو، عملية التدمير الذاتي الممنهجة للأطر والمؤسسات التنظيمية كافة على مستوى الشتات، وخصوصاً الشتات البعيد، الأمر الذي أنتج فراغاً للأجيال الفلسطينية ودورها»، يقول محتسب. «فقبل أوسلو، كانت هناك أطر تنظيمية تابعة للفصائل ولمنظمة التحرير، الأمر الذي مكّن شعبنا الفلسطيني في الشتات من ممارسة واجباته تجاه قضيته».
كان هذا الفراغ «الدافع نحو مبادرة شبابية أتت مع نهايات الانتفاضة الثانية، بين عامَي 2006-2007 من العديد من الشباب الفلسطيني في الغرب، وكذلك في مخيم اليرموك وفي مخيمات الأردن، لإقامة شبكة ومؤتمر يجمع الشباب الفلسطيني على اختلاف الجغرافيا، هدفها أن نطلِع بعضنا البعض كفلسطينيين على طبيعة حياتنا وعملنا». توّجت هذه الجهود بأول مؤتمر، عقد في تموز 2006 في إسبانيا، وتبعه مؤتمر باريس 2007، ومدريد 2008. «أثمرت هذه الجهود عن تأسيس ما أطلق عليه حينها "شبكة الشباب الفلسطيني" بوجود رئيسي في مخيم اليرموك في سوريا، ثم ليتغيّر الاسم إلى "حركة الشباب الفلسطيني" عام 2011، وبانتشار يشمل كلاً من فرنسا والسويد وأميركا». إلا أن الأحداث السياسية التي عصفت بالوطن العربي عام 2014 ألقت بظلالها على الحركة، «ما أسفر عن أن يكون التمركز الرئيس لـ«PYM» في أميركا، وبداية في كل من سان فرانسيسكو وسان دييغو ونيويورك.
في عام 2015، والذي كان مفصلياً، تأسس المخيم الصيفي وأقيم في كاليفورنيا لمرحلة جديدة، «فقد تم انتخاب اللجنة العمومية للشبكة، واتخذ قرار البناء والتوسع نحو كندا وأمكنة أخرى. إضافة إلى ذلك، جرى التأكيد على أن من واجبنا التصدي لجميع نواحي هموم الجالية الفلسطينية في أميركا، سواء الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية، ففي الأخير نحن منها وإليها».
في الإطار العام، انطلقت الـ«PYM» كردة فعل على تردي الحالة الوطنية الفلسطينية بشكل عام «ونحن كحركة، جزء من الجسد الفلسطيني الواحد، وإن كان متباعد الأطراف، فكل ما يحدث داخل أرض الوطن من الضفة وغزة والمخيمات، له تأثير مباشر على عملنا وفكرنا ومعنوياتنا وتحديدنا للأولويات في العمل. وذلك لإيماننا بأننا كشعب فلسطيني يعيش أكثر من نصفه في الشتات، تقع على عاتقنا مسؤوليات جمة وكبيرة، وعلينا أن لا نغفل عن حقيقة أن الحركة الصهيونية عدوّتنا، هي بدورها موجودة في كل مكان، وتستهدف وجودنا في كل مكان».

«سيف القدس»...ولادة جديدة
إن الأثر الاستراتيجي لمعركة «سيف القدس»، وفرض معادلة «وحدة الساحات»، كذلك ما يحدث في القدس، يؤثر على غزة والضفة، والعكس صحيح، كل ذلك «لم ولا يستثني الشتات الفلسطيني، فخلال هذه الملحمة خرجت تظاهرات في لوس أنجلوس ومشيغن وهيوستن، شارك فيها عشرات الآلاف، وكانت الـ PYM أحد أهم الفاعلين فيها، حتى إن الأجيال السابقة من الفلسطينيين المقيمين في أميركا ما قبل أوسلو، لاحظت أن مثل هذه التظاهرات كماً ونوعاً، لم تحدث منذ الانتفاضة الثانية». شكلت هذه التظاهرات «بداية مرحلة جديدة لنا كحركة، وليس فقط من جانب مئات المنضمّين الجدد، بل إننا وجدنا أنفسنا أمام مسؤولية أن نحسن استثمار هذا الزخم من آلاف المتظاهرين، وأن نحثّ هذه الجماهير على الانخراط الدائم والمستمر في النضال.
لم يكن هذا الزخم الثمرة الاستراتيجية الوحيدة أو حتى الأهم، فما لم يلاحظه كثيرون أنه خلال وعبر «سيف القدس»، شهد الخطاب السياسي والجماهيري في الغرب حول فلسطين تحولاً جوهرياً، إذ هيمنت صيحات وخطابات تنادي بتحرير كامل التراب الفلسطيني من البحر إلى النهر، وكذلك دعم المقاومة بأشكالها كافة، «وهذه النقلة النوعية تستدعي التوقف والشرح: نحن نرى في PYM أن من خصال العمل الثوري، المبادرة، وهذا من وجهة نظرنا ما ميّز "سيف القدس"، حيث لم تكن المعركة ردّ فعل بقدر ما كانت مبادرة من المقاومة على الأرض، وهذه المبادرة العسكرية على الأرض أدت إلى مبادرة أخرى، لكن على مستوى الخطاب السياسي هذه المرة، فقد تطور هذه الخطاب في أميركا حول فلسطين بشكل يرتقي إلى جذرية خطاب حركتنا، ويتجاوز خطاب حركة التضامن الذي يمثّل أحد التدهورات التي أنتجتها أوسلو». «فمن المهم فهم واقع أنه ومن مشكلاتنا كفلسطينيين ما بعد أوسلو، أن حركة التضامن تضخمت بشكل أكبر من الحراك الفلسطيني، الذي كان في السابق يؤثر ويصوغ خطاب التضامن، إلا أن تفكيك البنى الفلسطينية منذ التسعينيات حوّلها من موقع المؤثر إلى المتأثر، وصعود خطاب هزيل ينادي بحل الدولتين وأعلى سقفه المقاطعة، أمّا وبعد "سيف القدس" فقد استعدنا زمام المبادرة، ونرى أن استمرار ذلك من مسؤولياتنا كـ PYM».
يشرح محتسب أن خطاب الحركة يقوم على ثلاثة أسس: (1) تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني (2) حق العودة (3) لنا كامل الحق بممارسة جميع أشكال المقاومة دونما استثناء.
«وكحركة في الشتات، فإن ما نطرحه ونرى الحاجة إليه، هو بناء حاضنة شعبية عالمية للمقاومة الفلسطينية والمقاومة العربية خارج فلسطين».

«نعمل على أرض عدائية»
«نجيب في الـ PYM عن سؤال من هم أعداؤنا؟ بأن أعداءنا هم، الحركة الصهيونية ومن خلفها الإمبريالية، وخصوصاً الولايات المتحدة. بتعبير آخر، نحن نرى أن أميركا رأس الحربة، ولا نرى أنفسنا منعزلين عن كل الحراك الثوري في العالم الثالث ضد الإمبريالية. وما تمركزنا في أميركا سوى مدعاة للمسؤولية، بأن نظهر تواطؤ أميركا مع الحركة الصهيونية وعملائها من الدكتاتوريات والأنظمة اليمينية في أميركا اللاتينية وغيرها، وكذلك وعلى الطرف الآخر، نرى شعوباً صديقة للشعب الفلسطيني». إنّ المعركة مع الحركة الصهيونية، وفق محتسب، «حلبتها العالم بأسره، فهي في كل مكان، وتستهدفنا في كل مكان».
وبالعودة إلى «سيف القدس»، فإن «المسؤولية الراهنة اختلفت، إذ أصبح لدينا مئات المنتسبين، وعلينا تبني آلية عمل أكثر فاعلية، وذلك في مخيمنا الصيفي عام 2022، وضعنا أمامنا سؤالاً مركزياً شاملاً ألا وهو: كيف نواجه الصهيونية في الشتات؟ فاليوم يعيش الخطاب الصهيوني داخلياً وفي أميركا أزمة، وعلينا استغلالها، وأوّل الأجوبة على كيفية هذه المواجهة، هي المبادرة، والتحول من الدفاع إلى الهجوم، وإشهار صلابة مواقفنا السياسية دونما خجل أو وجل أو ركاكة». إلا أن هذه الصلابة «تستدعي الحرص والحكمة أيضاً، فنحن نعمل في أرض عدائية، في قلب الإمبراطورية والبقرة الحلوب للعدوّ، وحليفه الاستراتيجي. فعلى سبيل المثال، نحن كحركة نرفض أن نسجلها كمنظمة غير حكومية (NGO) ولذلك أسباب سياسية وكذلك أمنية، لنحصّن أنفسنا من استهداف اللوبي الصهيوني الذي يملك المليارات».
إنّ العمل لأجل القضية الفلسطينية من داخل الولايات المتحدة «صعب»، يقول محتسب، «ونحن على علم أنه كلما زاد حجم أثرنا، سنكون عرضة للاستهداف أكثر، وهو ما نستشرف حدوثه قريياً، إن لم يكن قد بدأ بالفعل سواء من مراقبة وانتظار أيّ حجة أو زلّة منا». فإلى جانب الهجمة الإعلامية التي بدأت بالفعل، فقد تم إرسال خطابات عديدة للكونغرس الأميركي تحذّر من النمو المتزايد للــ«PYM»، «والتجربة التاريخية تقول لنا إن أي عمل لفلسطين معرّض للقمع والترهيب والاتهامات الجاهزة بمعاداة السامية والإرهاب، وطالما تعرّض الفلسطينيون في أميركا للقمع والترحيل وسحب الجنسيات، وآخرها المناضلة رسمية عودة التي سُحبت منها الجنسية، ورُحّلت إلى الأردن عام 2015، وكذلك العديد من المعتقلين بتهم "الإرهاب" كالذي حصل مع "جمعية الأراضي المقدسة"، إلا أن كلمتنا الأخيرة هي أننا مستعدون لدفع ثمن هذه الفاتورة، وتضحياتنا لا تقارن مع ما يقدّمه شعبنا من دماء، ونحن لن نتخلّى عن فلسطينيّتنا وعن مصيرنا المشترك مع شعبنا في كل مكان، حتى التحرير والعودة».

المنسّق العام لـ«حركة الشباب الفلسطيني»