«ليس مستحيلاً أن تبقى في السجنعشر سنين، خمس عشرة سنة وأكثر
شريطة ألا تسودَّ تلك الجوهرة النائمة
تحت ثديك الأيسر»

[«نصائح إلى مرشحي السجن»،
ناظم حكمت]


ما الهدف من السجن؟ سلب الحرية. قتل المشاعر والكفر بالفكرة. إعدام الأمنيات وكسر الأمل. عقاب بين جدران وتأديب من خارجها. ربما الأهم من كل ذلك هو حصار القلب بأحاسيسه المتدفقة المتناقضة، وموت بطيء عبر الندم لفعل كان قراراً.
أن يقتلك الاحتلال، أنت شهيد. أن يضعك في زنزانة، أنت شهيد بصفة أسير. ويبقى الأسير أسير مفهومين: لو استشهدت أفضل؟ وهل سأخرج قريباً؟ تخترق الأسئلة الكثيرة دماغ الأسير ويحاول الإجابة داخل عتمة الليل أو عبر ضوء خافت يتسلل كل نهار. الفرق الأساسي أن الأسير الفلسطيني، يعرف أنه يقدم حريته وأحلامه لقضيته، ويقارن نفسه دائماً بالشهيد. وهنا الأمر نسبي نوعاً ما، فمن يضحي بروحه وتتوقف دنياه أسمى من التضحية بحبس الجسد. كذلك يبقى الأمل معقوداً أن الفرج قريب عبر صفقة تبادل أو تغير ما يحصل فيكون الإفراج أو الهروب.
ذات مرة، التقيت أحد «جنرالات الصبر» ومن حكاياه الكثيرة؛ أنه تخيل مع رفقائه في الزنزانة حدوث زلزال كبير. تخيلوا أن الحجارة انهارت فوقهم وتشققت الأرض تحتهم. وانقسمت الآراء حول إمكانية النجاة أو الوفاة. هذا خيال ممكن ترجمته في الواقع. لكن الأخطر أن يذهب الخيال إلى خطة فيكون الهروب، كما حصل في سجن جلبوع وتحرر الأسرى الستة. وما يميز الأسرى في السجون الإسرائيلية هو بقاء الحلم وإبقاء القلب على قيد الحياة. ولذلك نرى كريم وماهر يونس في تألق بعيداً من الأرق. هما بعد 40 عاماً يرددان عبارات قبل الأسر. لم يغيرهما السجان وظروف أربعة عقود. ما زالا متمسكان بالفكرة والقضية ولم يندما ويريان أنهما لم يقدما إلا الواجب ولم ينتظرا الشكر. هذه حال الأسرى جميعاً، فلم نسمع من أي أسير منة أو «شوفة حال». لم نسمعهم يقولون: «أنا فعلت كذا وكذا وقدمت كذا وكذا». هم متواضعون أكثر من الأحرار خارج القضبان. وذلك لأن قلبهم عامر بالفداء. ولعل الاحتلال يعرف اختيار الشهداء والأسرى، فيقتل ويعتقل الأنقى والأوفى. وإذا سمعت ذويهم يتحدثون عنهم يحكون صفاتهم، تجدها بين أنه كان حنوناً، مندفعاً، حالماً، صادقاً،... صفات لا تقترن إلا بالصفوة المصطفاة من شعب زاد عن 14 مليون إنسان.
يعرف الاحتلال أن شخصاً واحداً يمكنه هزيمة دولة نووية، وذلك بعد خروجه من الزنزانة وموقفه لم يتبدل. لذلك يعمد «الشاباص» إلى «تنغيص» الفرحة عبر نقله من زنزانة إلى أخرى، وتمنع الشرطة الاحتفالات في الخارج. وهنا تحاول أجهزة الاحتلال التخفيف من حجم الهزيمة النفسية والمعنوية. فكيف يقبع شاب في الأسر 40 عاماً ويشيب رأسه أو يتساقط شعره وتشيخ هيئته ويضعف بصره، ومع ذلك لم تتبدل فكرته الأولى ويخضع لأساليب غسيل الدماغ؟ اللغز في العقل واللب والفؤاد. السر هو في القلب. هذه الجوهرة تزداد لمعاناً على الرغم من سواد الأيام وتقلبات الأعوام.