يتخذ الحديث عن المرأة الفلسطينية، منذ البداية، شكلاً من أشكال الغوص في الأعماق، وتترتّب عليه معالجة قضايا إشكالية، تسكن مسارات المجتمع الفلسطيني منذ عقود، وخاصة منذ تصاعد وتيرة المقاومة الفلسطينية في سبعينيات القرن الماضي، والتي كانت تتخذ روح العدالة مساراً لها، مهما كانت التوجهات الفكرية والسياسية داخل هذه المقاومة، وبذلك أفردت وبلا تردد مساحة كبرى للمرأة ضمن أجندتها؛ بعيداً عن كل الضغوط الداخلية والخارجية.
الشهيدة شادية أبو غزالة (رسم سهاد الخطيب)

فالمرأة الفلسطينية بنظر من ساهموا في صياغة التجربة، سواء على الصعيد النظري أو الميداني، شريكة أساسية في صناعة القرار، وهي جزء لا يتجزأ من عملية البناء والإنتاج المعرفي والأدبي والميداني، لذلك لا يخلو أيّ مجال من حضورها الفعلي، سواء في محطات المد أو الجزر، فهي داخل المجازفة التحررية في بناء النهوض الفلسطيني.

لماذا الحضور؟
هذا السؤال هو جوهر معرفة حضور المرأة في المجال العام، وجاءت الإجابة عنه انطلاقاً من قراءة التجربة المجتمعية قبل النكبة وبعدها، وما أسفر عنها من فقدان الأرض، وتشتّت الشعب في بقاع الأرض. وفي سبيل لمّ الشمل، واختيار الكفاح طريقاً للعودة، فرض على الفلسطيني الخروج من دائرة الوشائج التقليدية، والتراتبية العائلية، والقوى التقليدية، التي عاشها لقرون سالفة، وذلك بالالتحاق بركب الحداثة مبكراً، مرغماً لا مخيّراً، فطبيعة العيش في المنافي، وما صاحبها من بؤس حياتي، دفعت الفلسطيني إلى الانخراط مجدداً في بنى اجتماعية مختلفة عما عاشه على أرض الوطن قبل النكبة، لذلك لا غرابة أن تحضر المرأة الفلسطينية في التشكيلات الحداثية الجديدة ذات الطابع الثوري، ضمن السياق العام التعاقدي الذي قدمها كشريكة في النضال على المستوى النظري، وربما كانت التجربة العملية فيها من هواجس الماضي التقليدي، لكنه انعكس على الجميع، ولم تكن بعض الارتدادات سوى امتداد لأزمات النظام السياسي العام، ولم تكن المرأة المستهدفة من هذه الارتدادات.

بين الداخل والشتات
ربما كانت ملامح التجربة المجتمعية الفلسطينية مختلفة في تمظهراتها العامة، بين الداخل والشتات، إلا أن هذا الاختلاف لم يكن جوهرياً بالقدر الذي كان مرتبطاً بالجغرافيا المكانية للفلسطينيين. في الشتات، كان المخيم هو الوعاء الحاضن الذي انطلق منه الفلسطيني إلى أنحاء المعمورة، عاملاً وموظفاً وطالباً، ومن هذه التجربة اكتسب الخبرات التي أثّرت على وعيه المعرفي، وساهمت في بناء رؤية جديدة. في المقابل، فإن الجغرافيا الفلسطينية انحكمت بواقع الاحتلال، وبالتالي اختار الوعي الفلسطيني أن يقيم مواءمة بين مبانيه المجتمعية التقليدية وبين خيارات حداثوية، تبعاً لضرورات المواجهة. صحيح في التجربة المجتمعية الفلسطينية تحت الاحتلال، كان حضور المرأة الفلسطينية رمزياً. إلا أنها دخلت معترك الحياة، وانخرطت في بنى حداثوية، في الجامعة والوظيفة العامة وحتى في الفعل الثوري. والمحك الفعلي لقراءة تجربة المرأة الفلسطينية مرّ بمحطات عديدة، لعل أبرزها مشاركتها الفعالة في أنشطة الانتفاضة الفلسطينية الكبرى، وصولاً إلى قيام السلطة الوطنية الفلسطينية.
الجهد الأكبر لدى المنظمات النسوية الفلسطينية منصبّ على تمكين المرأة نحو إشراكها في الفضاء السياسي والمجتمعي


عودة القيادة إلى أرض الوطن
مع توقيع اتفاق أوسلو الذي أرسى دعائم بناء نظام سياسي فلسطيني لأول مرة في التاريخ الحديث على أرض الوطن، عبر عودة القيادة الفلسطينية ونقلها لمؤسساتها في الخارج كافة إلى الضفة وغزة، إضافة إلى عودة أكثر من ربع مليون فلسطيني، بينهم عرب كانوا في فصائل الثورة الفلسطينية، ساهمت تلك المتغيرات إلى حد بعيد في بناء تجربة جديدة، عنوانها البناء مجدداً. صحيح أن التجربة كانت محمولة بروح المغامرة، بعيداً عن القراءة العقلانية الواعية، إلا أنها بحكم الواقع ملأت الفراغ الشاغر منذ عقود، فالجسم الفلسطيني في الداخل كان بدون رأس، ومع أوسلو ومتفرعاته دخل الرأس إلى الداخل، والتقت التجربتان على أرض الوطن، تفاعلتا في منحنيات عدة، لتشكلا لاحقاً مزيجاً تجلّى مع مطلع الانتفاضة الثانية.
خلال هذه المرحلة وما بعدها، نمت منظمات المجتمع المدني الفلسطيني، كمّاً ونوعاً، وطالت مساحات الوطن في المجالات كافة، وكان للمنظمات النسوية حضورها، وأسهمت إلى حد بعيد في بناء تجربة جديدة، تقوم على قوننة الحياة العامة وفق معايير النظام الأساسي (الدستور الفلسطيني) الذي أوضحت نصوصه العامة مبادئ العدالة والمساواة بين جميع أفراده. من هنا اتجهت المنظمات النسوية لتشكل عامل ضغط على قيادة السلطة الفلسطينية للتوقيع على معاهدة سيداو التي نصّت على القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وأصبحت معاهدة دولية في عام 1981، وقّعت السلطة عليها سنة 2014، إلا أنها لم تنشر في الجريدة الرسمية بعد، مع العلم أن السلطة تعيش تناقضاً إشكالياً، في إدارتها للحياة العامة، فهي في العلن تشرّع قوانين حديثة عنوانها المساواة، وفي الفعل العملي شجعت وما زالت تشجع الفضاءات العشائرية التقليدية التي لديها تراتبية تقوم على الذكور في كل المجالات، وهذا التشجيع العملي لديه أسبابه، فالسلطة من جهة فاقدة للشرعية الدستورية، وبالتالي تتّكئ على القوى التقليدية وتستمد منها شرعيتها، ومن جهة أخرى تنفر من كل القوى الحداثية والحزبية، لأنها تشكل عامل تحدّ لوجودها. فمنظمات المجتمع المدني في فلسطين لها حضور فعلي على المسرح السياسي، بالفعل والمشاركة. سميحة خليل مثلاً رشحت نفسها في أول انتخابات رئاسية حصلت في فلسطين سنة 1996 لمنافسة الرئيس الراحل ياسر عرفات.
ومع تلك التطورات في هذا المجال وغيره من المجالات النسوية، تجد السلطة الفلسطينية نفسها في مواجهة دائمة ومستمرة مع منظمات المجتمع المدني الفلسطيني، وخاصة النسائية منها. فالمسرح السياسي والمجتمعي يلحق بالتطورات والتحولات العالمية على الصعد كافة، ويحمل في جعبته مراكمة نوعية في مجال حضور المرأة الفلسطينية عبر مؤسسات متخصصة ومتعددة. ولعل الأرقام التي نشرها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني آخر السنة الماضية تشير إلى أن المجتمع الفلسطيني مجتمع فتيّ، ولعلّ الأرقام المتعلقة بالتعليم تحديداً تؤشر إلى اهتمام المجتمع الفلسطيني بتعليم الإناث بشكل ملحوظ، فقد بلغت نسب الخرّيجات في الضفة وغزة الضعف تقريباً من مجموع الخريجين العام لعامَي 2020 - 2021، وعدد الطالبات الملتحقات بمؤسسات التعليم للعام الدراسي 2021 - 2022 (138.294)، بينما الطلاب الذكور عددهم (16.931).
يتجه المجتمع الفلسطيني صعوداً، ويبدو أنه يتبنّى قيم الحداثة ضمن خصوصية التجربة والحالة الفلسطينية، فالجهد الأكبر لدى المنظمات النسوية منصبّ على تمكين المرأة نحو إشراكها الفعلي في الفضاء السياسي والمجتمعي، إضافة إلى مواجهة قضايا جرائم الشرف التي لا تزال حتى يومنا هذا ظاهرة داخل المجتمع الفلسطيني. صحيح أن هذا الإشراك تم بصورة أو بأخرى، إلا أن الأهداف كلها لم تتحقق بعد حسب وجهة نظر المؤسسات النسوية.