«يا ابني تذكّر! هنا صلب الإنكليزأباك على شوك صبارة ليلتين
ولم يعترف أبداً. سوف تكبر يا
ابني وتروي لمن يرثون بنادقهم
سيرة الدم فوق الحديد»


يلخّص محمود درويش، في قصيدة «أبدُ الصبار» من ديوان «لماذا تركت الحصان وحيداً»، ما جرى للشعب الفلسطيني أثناء النكبة، ويعرّج على المقدّمات التي أوصلتنا لها. قصيدته ليست مجازاً، إنها تدوين لأحداث جرت، وثقت سلوك المحتل البريطاني. الآلاف من الفلسطينيين، وطوال سنوات الانتداب، تم سوقهم حفاة على شوك الصبار، بحثاً عن معلومة سريعة تفيد بمكان اختباء الثوار. والضحايا المعذَّبون هم فلاحو القرى الفلسطينية. يكفي أن تكون فلسطينياً، وتعيش في منطقة تعرّضت لهجمات الثوار، أن تتعرّض لهذه التجربة من العذاب القاسي. ولم يكتف بذلك، بل كان يقدم على اقتحام البيوت، والعبث بمحتوياتها، يخلط المواد التموينية ببعضها، يسكب الزيت على الطحين، ويخرج من البيت بعد أن أحدث الخراب فيه. ولا غرابة أن الاحتلال اليوم يقوم بالسلوك نفسه، فهو الوريث الفعلي لمن ربّاه، والهدف من هذا كله هو ضرب البيئة الحاضنة للثورة، لإبعادها عن المنخرطين بها، وصنع معادلة تقول: إن التعاطف مع الفعل الثوري مكلف، ويزيد عليه أحياناً باستهداف المدنيين وقتلهم، ضمن سياسة معتمدة مسبقاً، هدفها دب الرعب بالجميع.
أمّا المطلوبون للانتداب، فعائلاتهم مرشحة دوماً للاعتقال لمساومة المطلوب، ولإجباره على تسليم نفسه، وتتكرّر الحكاية اليوم مع الاحتلال، فأهالي المطلوبين قد يمكثون أشهراً وسنوات بتهمة عدم الإبلاغ. هناك قانون عسكري موروث من عهد الانتداب، يحاكم كل من سمع وشاهد أي عمل مقاوم ولم يقم بالإبلاغ عنه، حتى وصل إلى محاكمة النوايا والمشاعر.

الانتداب صورة المنتصر
في نهاية الحرب العالمية الأولى، قرّرت الدول المنتصرة، بريطانيا وفرنسا، اقتسام العالم، ولأنهما الأقوى في عصبة الأمم، اشتغلوا على صناعة خطاب حضاري، ليبرروا فعلتهم، خطاب الوصي على الأمم المغلوبة. الانتداب هو اللفظ الاستعماري المخفف، لسرقة الأرض، وفي حالتنا الفلسطينية، تقديمها في ما بعد للغير بلا وجه حق. الانتداب الذي ادعى أن فعله أخلاقي، قام طوال الوقت، بالهدم والقتل والتشريد، سنّ القوانين التي حرمت الفلسطيني من كل مقومات الحياة، ومع هذا واصل الادعاء أنه يريد أن نصبح أمة متحضرة، فاستخدم من أجل هذا «التحضير» سلسلة من أدوات القهر المنظم، مارسها طوال ثلاثة عقود متواصلة، فالعقاب جاهز لمن لا ينصاع.
التاريخ الفلسطيني مع الانتداب حافل، بكل أشكال التنكيل، من حصار المدن والأرياف، وارتكاب المجازر بحق المدنيين العزل، ونسف وهدم البيوت، إلى الإبعاد والاعتقال التعسفي، والإداري، والإقامة الجبرية، والاعتقال المنزلي، وبناء السجون، على امتداد أرض فلسطين. قطعوا أشواطاً في التعذيب، تفننوا في هذا المجال، وبلغوا الذروة باقتلاع الأظافر، وحرق المعتقلين، بوحشية قل نظيرها، وفوق هذا كله، جهزوا البلاد لتكون «وطناً قومياً» للغرباء، ليس فقط عبر الصكوك القانونية، بل بالتحضير العملي لتنفيذ هذا الصك، عبر إقامة البنى التحتية، والطرق والجسور، حتى قال بعض المؤرخين، إن لحظة انسحاب البريطانيين من فلسطين، كانت لحظة كاملة، حيث تسلم الصهاينة البلاد، وفيها مستلزمات قيام دولتهم كافة.
والغريب في الأمر، أنه مع مرور الوقت، ومواصلة الشعب الفلسطيني كفاحه المشروع، تبيّن أن الصهاينة لم يرثوا فقط البنى التحتية للانتداب البريطاني، بل ورثوا سلوكه أيضاً، في ممارساته اللاإنسانية بحق الشعب الفلسطيني. الاحتلال اليوم لا يخجل من هذا الفعل، ومبرره القانوني حاضر دوماً، الفلسطيني ما زال حتى هذا الوقت يُحكم بقوانين الانتداب البريطاني، إلا في بعض الزيادات التي ابتدعها الصهاينة لقهر الفلسطينيين، كاحتجاز جثامين الشهداء، واستبدال الإعدام بالسجن المؤبد.
وبموجب قوانين الانتداب التي لا تزال فاعلة حتى هذا اليوم، ما زال الفلسطيني يعيش تحت نظم عسكرية، لا تعترف بإنسانيته على الإطلاق، فيما العالم المتحضر، كما يدعي، يشاهد ذلك ولا يفعل أي شيء. لا عقوبة لهذه الدولة الخارجة عن القانون، ملفات الجرائم الصهيونية تحفظ دوماً في الأدراج، كما أن إسرائيل لا تقبل بالمؤسسات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، والذريعة دوماً أن المشتكي لا يتمثّل بدولة، وهذا يعني أن الفلسطيني، كفرد وجماعة ومؤسسات، لا يحق له تقديم الشكوى.
المحتل المنتدب، بنى لنا السجون. في كل مدينة من البلاد، تجد سجناً، من عكا شمالاً وحتى النقب جنوباً، ورثها الصهاينة، وزادوا عليها


هذه الدولة الاستعمارية، منذ قيامها وحتى هذه اللحظة، تغطي مؤسساتها العسكرية والأمنية أفعال المستوطنين الإجرامية بحق الفلسطيني، وكلها تأتي بادعاء «الدفاع عن النفس»، فالقاتل في عرف الاحتلال يتجوّل حراً طليقاً، طالما كانت الضحية هويتها فلسطينية.
قبل 105 أعوام، كانت فلسطين على موعد غيّر أقدارها، وعد بلفور الذي بموجبه نقلت بريطانيا المنتصرة في الحرب الأولى ملكية فلسطين لليهود الذين لم تكن تتعدى نسبتهم في فلسطين الـ 5% في ذلك الوقت، أعطاهم الحق في تقرير المصير، لتلقي بشعب توارث الأرض عن الأهل الكنعانيين، على قارعة الطريق. منذ ذلك الوقت، وحتى يومنا هذا، والفلسطيني يصارع السفاح، في معركة مفتوحة معه، من دون أن يملك من أدوات الصراع، سوى الحق، وإرادة الكفاح المشروع.
المحتل المنتدب، بنى لنا السجون. في كل مدينة من البلاد، تجد سجناً، من عكا شمالاً وحتى النقب جنوباً، ورّثها الصهاينة، وزادوا عليها، وأخذوا دفاتره، التي احتوت المعلومات والوثائق عن الأراضي وأهلها، الأديان، المذاهب، الطوائف، التقسيمات الاجتماعية، أبنيتنا، مقدراتنا العلمية، مكتباتنا، كل شيء. وفي رواية الأجداد أن المحتل الصهيوني بعد النكبة في العام 48، والنكسة في العام 67، راجعهم بقضايا ومعلومات شخصية، قبل قيام دولة الاحتلال.

بين المنتدب والمحتل
يظهر التكامل بين الانتداب/ الاحتلال والاحتلال الصهيوني، عبر سلوك دولة الكيان، والذي يبدو استكمالاً لمفاعيل الانتداب. مارست بريطانيا قبل النكبة ما يمارسه الاحتلال بعدها، وفق رؤية استعمارية واحدة، جوهرها الفصل الكلي بين السكان والأرض. الشعب الفلسطيني، في نظرهم، يحمل صفة المقيم، وربما الصدفة هي التي أوجدته، والقاعدة في التعامل معه تقوم على فرض الهدوء مقابل البقاء. وحدها المؤسسة الأمنية مسؤولة عن أقدارهم، وهي تعدّ عليهم أنفاسهم. وما بين الانتداب وقيام دولة الاحتلال، كانت النكبة، فقد فيها الفلسطيني كل شيء، ماضيه وحاضره ومستقبله، وسؤال الهوية، الذي ظل ماثلاً. أعلن الفلسطينيون الثورات والانتفاضات، وحتى اليوم يدفعون الدم، وهم يفتشون عن إجابة لهذا السؤال الذي ما زال مفتوحاً على مصراعيه.
قرنٌ وزيادة والعالم «المتحضر» يرى كل هذا الألم والتشريد والقتل ونسف وهدم البيوت، وأسر شعب بأكمله، من دون أن يحرّك ساكناً، بل تحالف مع القاتل ضد الضحية؛ الأوروبي بابه الاقتصادي، حيث يعيش المحتل على سوق أوروبية مفتوحة على مصراعيها أمامه، جعلته من أقوى الدول الاقتصادية في المنطقة، وأميركا تزوّده بالمال والعتاد وتغطيه في المحافل الدولية.

105 أعوام من الإنكار
بريطانيا «العظمى»، حتى هذا الوقت لا تريد الاعتذار، بالأمس قنصلياتها في القدس رفضت قبول عريضة احتجاج قدمها فلسطينيون، هي لا تريد حتى الاستماع، وفلسطين ما زالت امتحان الجميع، والرافض لصدى صوتها شريك المحتل في الجريمة.
قد يسأل البعض، هل يوجد فرق بين الانتداب والاحتلال اليوم؟ والجواب من ميدان فلسطين يحضر، هما من أم واحدة، فوعد بلفور لم يكن فقط قبل 105 أعوام، وعد بلفور حاضر في كل يوم، يؤرّخ تاريخ مرحلة لم تنته بعد، مرحلة تسير نحو وجهتين لا ثالث لهما، فلا قيمة لكل ما أحدثته الآلة الغربية، ممثلةً ببريطانيا بالأمس وأميركا اليوم، طالما أن نداء فلسطين حاضر دوماً في أفئدة ملايين الفلسطينيين، في الداخل المحتل، وعلى قوس الوطن، وفي المنافي البعيدة والشتات. الهوية في أرض كنعان اكتملت، قبل قيام دولتهم، وفي أرض كنعان يأتي الغزاة ويرحلون، فيما الوجهة الثانية، أن يستمر الصراع حتى نهايته، أمّا النسيان فليس حاضراً في أجندة الفلسطينيين. قسّموا الخريطة والوطن، عاش الفلسطيني عوالم وأزمنة مختلفة، امتحن الألم، ولم يقبل الهزيمة، فظل المحتل يخشاه دوماً، ماتت غولدا مائير التي أنكرت وجود الشعب الفلسطيني، وبقي الفلسطيني بفعله ذاكرة في مواجهة النسيان. الرهان على عامل الوقت، لا يجدي في الحالة الفلسطينية، في العام 1936 جنّدت بريطانيا ثلث قواتها العسكرية في فلسطين لمواجهة ثورة القسام، واليوم تجنّد دولة الاحتلال نصف قواتها، لمواجهة بضع مئات من المقاتلين، وهذا مثال حي على عظمة القضية، وتأثيرها على الجميع.
يطوى قرن ويفتح آخر، وبلفور المقبور في رسالته، حي، ولن يموت إلا بعد دفن الوعد وصاحبه، عندها تعود الحكاية إلى أصلها.