لوي ألداي، مؤرّخ وكاتب إنكليزي، ذو لسان عربي طلِق، ومحرّر موقع «Liberated Texts»، وهو موقع معني بتسليط الضوء على كتب منسيّة، همّشت عن قصد منذ صدورها من قبل التيارات الثقافية المهيمنة، فيعيد نشرها على صيغة مراجعات ملخصة تسهل على القراء تناول مواضيع النضال ضد الاستعمار والإمبريالية وتاريخ الثورات حول العالم. وبالتعاون مع «Ebb Books»، وكإصدار أوّل ضمن مشروع لترجمة وإعادة نشر كتب مختارة، عمل ألداي على تحرير ترجمة محمود نجيب للنسخة الإنكليزية لكتاب غسان كنفاني «في الأدب الصهيوني».

يحدّثنا ألداي في هذه المقابلة عن أهمية الكتب كأداة ثقافية في مجابهة البروباغندا الغربية، مستحضراً أثر العمل الثقافي للشهيد كنفاني عليه شخصياً، منذ أن قرأ «رجال في الشمس» للمرة الأولى، وصولاً إلى تواصله مع عائلة الشهيد وزيارتهم في منزلهم في بيروت: «كان اسمه على باب المنزل (بيت غسان كنفاني)، وجلست محاطاً بمقتنياته وأعماله، وفي حديثي مع السيدة آني والسيدة ليلى كنفاني، لم أشعر أننا نتكلّم عن غسان بعد نصف قرن على استشهاده، كان وكأنه بيننا، بصدق، شعرت أنه من الممكن أن يدخل علينا في الصالة في أي لحظة!»
علاقة لوي مع الكتب والبروباغندا وكنفاني علاقة متداخلة، وهو الحاصل على دكتوراه في التاريخ، ويعمل في إحدى أكبر المكتبات في العالم، حيث غذّت كل واحدة منهما الأخرى. محاولة بحثه عن كتب بعيداً من الثقافة السائدة ودعايتها السياسية قادته إلى كنفاني، الذي بدوره أثّر على فكره وعمله في مقارعة البروباغندا الإمبريالية.
أينما اطلعنا على أي من الإصدارات التي ساهم فيها ألداي، سواء الإلكترونية منها، أو على الصفحات الأولى للمطبوعات، فسنجد هذا الاقتباس:
«تختلف الكتب عن جميع وسائل البروباغندا الأخرى... يمكن لكتاب واحد أن يغيّر وبشكل كبير موقف القارئ وأفعاله بشكل لا يتقارن مع أي وسيلة أخرى... إن الكتب أهم الأسلحة الفعالة لاستراتيجية بروباغندا على المدى الطويل» (مسؤول العمليات السرية، في الـ«سي آي أي»، 1961).
ولكن السؤال اليوم، حول راهنية هذه الفعالية، فهل لا تزال للكتب هذه الأهمية الاستراتيجية في عصر وسائل التواصل الاجتماعي؟ يجيب لوي: «جدير بالإشارة أن الاقتباس أعلاه هو أحد أسباب انبثاق فكرة Liberated Texts، صحيح أن طريقة استهلاك الناس للمواد الإعلامية والمعلومات قد تغيّرت، وبشكل أثّر في آلية عمل البروباغندا، وهو ما يدفع بالكثيرين مساءلة كون الكتب أهم أسلحة البروباغندا، فمعارك البروباغندا قد تغيّرت كثيراً منذ الستينيات، إلا أن ما يجعلني أقارب الموضوع ليس من ناحية الدور التاريخي للكتب في البروباغندا الغربية فحسب، بل من ناحية استمرارية هذا الدور حتى اليوم، هي الأحداث الراهنة».
بعد خمسين عاماً نرى أناساً يكتبون ويتحدثون عن غسان ولكنهم لن يجرؤوا ولا حتى في أحلامهم على دعم والحض على الكفاح المسلح


«لنأخذ الكتب التي نشرت عن سوريا خلال العقد الماضي على سبيل المثال، ولنلاحظ هنا على وجه الخصوص دور النشر اليسارية، حيث أنها تنشر ومن دون أدنى نفَس نقدي الرواية الإمبريالية عن سوريا، لكن وببساطة باستخدام مفردات ومصطلحات يسارية. دفعني هذا التطابق العجيب بين روايات اليسار وروايات المؤسسات الإمبريالية، إلى التساؤل عن الشكل الحالي لاختراق السي آي أي لدور نشر كتب، وبشكل متصل بشكل مباشر مع الأكاديميا ككل. فالاقتباس الذي ذكرناه هو من تقرير "لجنة تشيرش" لعام 1975 وهو تحقيق لمجلس الشيوخ الأميركي، يكشف بشكل مفصل طرق تأثير وسيطرة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية على الكتب التي تنشرها دور النشر، ليس داخل الولايات المتحدة فقط بل حول العالم، وهو ما يمتد للأكاديمية لارتباط الاثنين معاً. وعليه، كانت ملاحظتي لحقيقة أن من يصورون أنفسهم كأكاديميين يساريين راديكاليين، يؤلفون كتباً تتخندق مع الإمبريالية في صف واحد وتدعمها في سوريا لأكثر من عقد، هي ما جعلتني أربط بين أمرين، هما: المعرفة التاريخية بدور السي آي أي، والثاني استيعابي أنه وإن تغير الزمن، فإن الكتب والأكاديميا -وهما مرتبطان لأن الكثير من هذه الكتب مؤلفة من قبل أكاديميين- لا يزالان وبشكل مباشر ينشرون السردية الإمبريالية».
يرى ألداي أنه «وإن كان استهلاك الناس اليوم أكبر لوسائل التواصل منه من استهلاك الكتب، فإن عملية إنتاج الكتب تتكامل وتنعكس على وسائل التواصل. ففي مثال سوريا، وبمجرد تأليفك لكتاب، سوف تتم مثلاً استضافتك على بودكاست، وسوف تتم إعادة تدوير مقتطفات من الكتاب على وسائل التواصل لتستهلك بشكل سريع، فيما يصب في نهاية المطاف في ذات السردية الغربية، وهذه أهمية دور الكتب اليوم بالنسبة للإمبريالية».


«يحاول Liberated Texts إعادة تعريف الناس بهذه الأهمية، وذلك عبر دفعهم للتفاعل مع الكتب المنسية والمهملة واستهلاكها، وليس مجرد استهلاك التغريدات والمقاطع المصورة. حيث إن عملية قراءة كتاب، وإن كان قصيراً، عملية مختلفة وأعمق من ناحية التعلم وتشكيل الأيديولوجيا. حتى إنه أمسى بوسعنا التعرّف وبسرعة إلى أولئك الذين يكوّنون أيديولوجيتهم السياسية عبر مجرد تغريدات أو الـmemes. فهنا لا ترى نقاشاً سياسياً جاداً ومستمراً يؤدي لمنفعة ما، ومنطلق من إيمان بمبادئ سياسية، بل يتحوّل الأمر إلى صراع حول الشهرة والسمعة. وهذا ما أريد أن أوصله للجميع، وهو أن تبني تحليل انحدار أهمية الكتب، وأنه لم تعد القدرة لدى الناس للصبر والتركيز الطويل بين دفاتها، ستوصلنا في نهاية المطاف إلى التعبير عن السياسات في 32 ثانية على تيك توك. وأنا هنا لا أنفي أهمية هذه الوسائط القصيرة، إلا أن الكتب هي الرافد الأساس، سواء لتغريدات يعاد تغريدها لمئات آلاف من المرات أو أن يظهر المؤلف في بودكاست يستمع له الألوف، حيث أن تأليف الكتاب هنا يعمل كنوع من إصباغ الشرعية والتميز».
يعود بنا لوي هنا إلى مثال الحرب السورية: «فلو افترضنا أن أحداً بلغ من العمر 18 سنة، وكان طفلاً خلال نشوب الحرب، وأراد اليوم فهم الأحداث، فسيجد نفسه يقرأ كتباً نشرتها دور نشر يسارية كتبها كتاب يساريون. وهذا ما أجده محبطاً، فما تفعله هذه الكتب هو إعادة إنتاج ذات السردية الإمبريالية ولكن بذائقات وصبغات مختلفة، فجميع دور النشر من Pluto Press وVerso وHaymarket يتوافقون على السردية ذاتها، وأي أحد يحاول مجرد مجادلة أو مساءلة هذه السردية فسيعتبر أنه تجاوز الحدود، وهو ما خبرته وعشت تجربته شخصياً وتعلمت الكثير منه. فلطالما كنت واعياً لحدود الحرية الأكاديمية، ولكن موضوع سوريا كشف لي حجم انغلاقها، فأي موقف لا يتناسب مع حشد الإمبريالية لكل أدواتها سوف يكلفك ذلك كثيراً، ستهدد حياتك المهنية وتهاجم على الصحف وما هو أبعد من ذلك. وهذا ما يتكرر اليوم في أوكرانيا، خذ على سبيل المثال المؤرخ الأميركي تيميثي سنايدر، الذي يتصدّر شاشات التلفزة، ويروّج له كمؤرخ يعتد به، حيث إن مهمته الرئيسية خلال السنوات الماضية هو تمرير فكرة أن جوزيف ستالين والاتحاد السوفياتي بسوء، بل يرقون ليكونوا أسوأ، من هتلر ومن النازية. ويصب جهده هذا في اتجاه الغسيل الأبيض لدور أوكرانيا في الهولوكوست وتحديداً دور شخصيات كستيبان بانديرا، إن كل هذه الجهود كانت تعبّأ بالتوازي مع الانقلاب عام 2014، فالأكاديميون يضفون الشرعية على سرديات هذه المشاريع السياسية. وذلك عبر طريقتين: الأولى عبر تأليف كتب، ثم تصديرها على شاشة كـ CNN وإعادة ترديد سرديتهم، والأخرى، والتي تعمل على المدى الأطول، عبر تصدير كتبهم على رفوف المكتبات، والترويج لهذه الكتب في مراجعات على صفحات أبرز الصحف. وهذا تحديداً ما يحاول موقعنا sLiberate Text التصدي له، عبر الترويج لكتب تقارع الإعلام السائد».
علاقة ألداي بسوريا لم تبدأ مع تفاعله مع تداعيات الحرب وتحشيد البروباغندا الإعلامية والأكاديمية، فقد عاش في سوريا، وتعلم اللغة العربية في معاهدها، متنقلاً بين مدنها، خلال 2009. وبالنسبة لتجربته الشخصية من اتخاذ مواقف مشككة في السردية السائدة يخبرنا كيف استهدفته صحيفة «التايمز» البريطانية مع مجموعة من الأكاديميين على خلفية الحرب في سوريا، في محاولة يائسة قامت فيها الصحيفة بتزيف تغريدات له، ونشرها. على خلفية هذه التجربة أمام محاولة النيل من قبل الإعلام الغربي، رجعنا لنسأل لوي عن قصته مع غسان كنفاني وعلاقة إرث غسان مع كل هذا: «كأغلب القاطنين في الغرب، تعرّفت إلى غسان من خلال أعماله الأدبية، وعلى وجه الخصوص، أهم منتجاته الأدبية وأكثرها انتشاراً "رجال في الشمس". قرأتها بالإنكليزية قبل ست سنوات، ثم بدأت بقراءة قصصه القصيرة بالعربية. إلا أن علاقتي العاطفية بغسان بدأت بعد قراءة شيئين، الأوّل النص الذي كتبته أرملته السيدة آني في الذكرى الأولى لاستشهاده، وتحدّثَت فيه عن علاقتها به حتى وفاته. وكذلك رسالتي تعزية إحداها من جورج حبش إلى آني، والأخرى من ابنه فايز يخاطب فيها أبيه بعد وفاته».
أهمية الكفاح المسلح لا تكمن فقط في الناحية الاستراتيجية والأيديولوجية بل وفي مقارعة البروباغندا الإمبريالية أيضاً


«أمّا أكثر الرسائل التي أثّرت علي في حياتي كانت رسالة آني الوداعية لغسان. والمسألة هنا لا تتعلّق بالمستوى العاطفي وأثره على قارئها، بل على المستوى السياسي أيضاً، فهذه الرسالة لا تعكس فقط مدى التزامه السياسي بالقضية بل بمدى تمسكها هي بالقضية، علينا أن نستوعب هنا أن آني وبعد خمسين عاماً من تلك الرسالة ما زالت في بيروت تعلّم لأجل أطفال فلسطين، فهي لم تبدّل طوال هذه السنين. جعلتني هذه الرسائل أهتم بشخصية غسان، ويمكنني هنا أن أضيف عاملاً آخر وهو مشاهدتي لوثائقي "الجيش الأحمر-الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين: إعلان الحرب العالمية"، والذي يظهر فيه غسان متحدثاً عن كون الكفاح المسلح أفضل وسائل البروباغندا على الإطلاق. حيث تحدّث بشكل مطوّل مشيراً إلى أن أهمية الكفاح المسلح لا تكمن فقط في الناحية الاستراتيجية والأيديولوجية بل وفي مقارعة البروباغندا الإمبريالية أيضاً. من هنا، بدأت بالوعي على الجهود المضنية المبذولة لتمييع شخصية غسان وسبغه بإطار ليبرالي، في كل من الإعلام الأجنبي بل والعربي أيضاً كقناة الجزيرة، بهدف ليس نزع وتهميش كتاباته السياسية، بل أيضاً التغطية على السياق التاريخي والأيديولوجي والسياسي الذي عاصره وساهم فيه. ولذلك كثيراً ما نرى من يتداول فيديوهات شهيرة لغسان، يتحدّث فيها بكارزماتية وبلاغة، ومن ثم وفي التغريدة التالية يقومون بالتعليق والتوهين من النضال ضد الإمبريالية متجاهلين الإرث السياسي الذي يمثله غسان والجبهة الشعبية».
خلال الحديث يربط ألداي بين أحداث متزامنة في حياة كنفاني، أوّلها رسالة كتبها غسان بعد زيارته لغزة عام 1966، أي قبل عام واحد من حرب 67. يتحدّث غسان في هذه الرسالة عن أهمية الكفاح المسلح، قائلاً: «إنني أشعر أكثر من أي وقت مضى أن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح، وأنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه، وذلك يشعرني بغربة تشبه الموت، وبسعادة المحتضر بعد طول إيمان وعذاب، ولكن أيضاً بذل من طراز صاعق». يرى لوي أن هذه الرسالة وما فيها من إبراز لأهمية السلاح أمام العمل الدعائي، وكذلك الحض على البذل والعمل، وهو بذل أكمله غسان حتى بعد الهزيمة، حين بدأ العمل على كتابه «في الأدب الصهيوني»، فهذه الفترة كانت مغايرة بالنسبة للفلسطينيين، حيث رأوا أن عليهم المقاومة وحمل زمام الأمور بأنفسهم والاعتماد بشكل أقل على الدول العربية، وبشكل تصدّرته حينها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين».


يستطرد لوي أكثر هنا: «علينا الملاحظة أنه ورغم الحض الواضح لغسان على حمل السلاح والمقاومة المسلحة، وتنظيره العميق لأهميتها ومركزيتها للقضية، إلا أننا وبعد خمسين عاماً نرى أناساً يكتبون ويتحدثون عن غسان ولكنهم لن يجرؤوا ولا حتى في أحلامهم على دعم والحض على الكفاح المسلح. رغم أننا اليوم نعيش انبعاثاً كبيراً لإحياء الكفاح المسلح من شهادة عدي التميمي إلى ما شهدناه البارحة في نابلس (في إشارة لعملية جيش العدو ضد «عرين الأسود»). وإذا ما قرأنا وصية عدي التميمي فهو يتحدث بوعي تام عن دوره، بأنه لن يحرر فلسطين وحده، لكنه في وعي تام لما يحدث حوله وأراد الانخراط في سلسلة العمليات والجهد المسلح، وهو جهد طالما حاول كثيرون نزع ومحو مساهمة كنفاني فيه. وللمفارقة غسان تحدّث بنفسه عن هذا الموضوع، نزع أعماله السياسية من الأدبية والعكس. فقبل اغتياله بأيام حاولت لميس إقناعه بالتخلي عن كتاباته ونشاطه السياسيين، والعودة لكتابة القصص، ليجيب غسان بما معناه، أنه ومن دون مبادئي السياسية ومن دون مواصلتي عملي السياسي تمسي قصصي كلها بلا أي معنى، وأنت بنفسكِ ستخسرين احترامك لي. وهنا دفع غسان حياته ثمن هذا الالتزام بالمبادئ». «وأنا هنا لا أقصد التقليل من شأن أعماله الأدبية، ولكن القصد، أن كل وسائل المقاومة الأدبية منها والفنية كلها مهمة، ولكن علينا عدم استثناء المقاومة المسلحة فهذه تعتبر خيانة لإرث كنفاني. ولذلك علينا الترويج لكتاباته وأفكاره السياسية وهذه كانت من أهداف ترجمة "في الأدب الصهيوني"».
يخبرنا ألداي أنه حسم أمر ترجمة الكتاب بعد قراءة المقدمة، التي ختمها غسان بجملة «إن كل ما تطمح إليه هذه الدراسة هو أن تلقي ضوءاً آخر على الشعار الصعب: اعرف عدوك»، العدو ذاته الذي قام بتفجير سيارته وقتله مع ابنة أخته لميس، لتتطاير أشلاؤهما. نسّق لوي العمل على الترجمة مع عائلة كنفاني، بل إن بعضاً من ريع الكتاب نفسه سيعود لمؤسسة غسان كنفاني الثقافية، التي تديرها كل من آني وليلى ابنة غسان. ويعلق لوي أنه وأثناء الحديث مع العائلة لا وجود للأسى والحزن، فعملياً غسان لم يمت، بل إنك تشعر أن طاقته موجودة، توجه كل ما يدور في حياتهم، بل إنه وعند الحديث عنه لا نتحدّث بصيغة الماضي بل الحاضر، بل إني «شعرت بوجوده بيننا»، يقول لوي. ويضيف أن العمل على تحرير النص وترجمته برفقة محمود نجيب، جعلتهما يتتبعان خطوات غسان كلها أثناء تأليفه، وكأنهما يعيشان هذه اللحظات من جديد، متسائلين عن من أين لغسان الحصول على هذه المصادر في تلك الحقبة، ومن أين له الوقت لهذا العمل المضني. تساؤل أجابت عنه السيدة آني، بأنه كان يحصل على المصادر والكتب بدعم من مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير، وبالإضافة إلى ذلك، كانت تأتيه من أصدقاء له بالخارج من بينهم أصدقاء يهود معادين للصهيونية، أمّا بالنسبة للوقت فقد كان غسان يعمل على الكتاب في نهاية يوم عمله وبعد رجوعه للمنزل.
(رانية سعد الله)

«علينا هنا العودة إلى حديثنا عن أهمية الكتب، فحين احتلت إسرائيل لبنان عام 82 لم تقم فقط بتفجير المركز وقتل وجرح من فيه، بل إنها سرقت الكتب والأرشيفات منه. وأثناء العمل على الكتاب تكشّفت لنا عدة ملاحظات: فمسألة بحث غسان لمعرفة عدوه وفهمه ليست مجرد فضول، بل إن المسألة تتعلق بهدفه التحرري. وعلينا أن نتذكر هنا أنه كان يعمل على الكتاب في ظل جو من الانهزامية والضعف ليس فقط العسكري بعد حرب حزيران 67، بل أيضاً من الناحية الأيديولوجية والسياسية. بكلام آخر، كان يعمل على كتاب يفكك الرواية والبروباغندا الصهيونية، وهي في أوجها بعد الحرب. الأمر الآخر، كانت عملية إعادة قراءة الاقتباسات من الأدبيات والكتب الصهيونية من مصادرها الأم تشعرك بالاشمئزاز مما تقرأه، ويمكننا تخيل أنه هذا ما كان ينتاب غسان أثناء بحثه. حيث تشعر أنه كان يصارع عاطفته ويكبح جماحها في محاولة منه فهم عدوه بشكل موضوعي ودقيق، ثم يستخدم هذه المعرفة ضد هذا العدو. فنحن هنا لا نتكلم عن مثقف يبحث عن ترقية مهنية أو إشباع فضول شخصي بل إن كامل هدفه هو المساهمة في مشروع تحرري. يعطف على ذلك، وحين تحليله للنظرة الغربية حول استعمار فلسطين، فهو لا يحاول أن يلتمس عاطفة الغرب. حيث إنه لا يتحدث عن الغرب بصفته التاريخ ذاته، بل موضوعاً له. وبشكل متميّز مناقض للأكاديميين المشوهين اليوم الأورومركزيين، فمن الناحية الثقافية فقد كان نداً لعدوه».
يختم ألداي حديثه معنا بالتعبير عن شعور انتابه كثيراً أثناء العمل على الكتاب، وهو: «سحقاً للصهاينة» الذين يظنون أن بقتلهم لغسان كنفاني أنه سينسى بعد كل هذه السنين. كانت هذه المشاعر ما تحفّزه على مواصلة العمل على الكتاب رغم كل الصعوبات التي واجهها.
بيعت، حتى اليوم، المئات من النسخ من الكتاب حول العالم، كما أن العديد من المكتبات قامت بطلبه، وصولاً لمكتبات العاصمة القدس. كما أن الكتاب سيصل للعديد من القراء العرب والفلسطينيين في الشتات والذين لا تسعفهم عربيتهم لقراءة النص الأصلي. يتوقّع لوي أنه ومع الزمن سيولّد الكتاب هجمة صهيونية تحريضية عليه، تحاول محاربة الكتاب والحد من انتشاره، وهو أمر ينتظره، بل يشعرنا كأنه يريد حدوثه؛ يريدهم أن يعلموا أن اغتيال غسان الجسدي، أولاً، ثم المعنوي ومحاولة تمييع شخصيته ثانياً، لم ينهه، فلا يزال يلاحقهم.
أمّا الأمر الآخر الذي لم ينطق به لوي ألداي، بل أفصحت عنه عاطفته ومجهوده، هو سحر شخصية غسان كنفاني، فما زلت يا غسان بعد عقود من استشهادك تعبر الحدود تصنع الأصدقاء لك، ولفلسطين.