التصوف مذهب إسلامي سلوكي أصيل، ليس دخيلاً أو طارئاً على البيئات الإسلامية، ومنها المجتمع الفلسطيني، الذي عرف «الصوفية» باكراً، في القرون الأولى من الإسلام، عبر اتصال أحد الشيوخ في مدينة الخليل بأعلام التصوف في العراق، وفق أرجح الأقوال. ليس مهمّاً للغاية، برأيي، الوقوف على هوية الشخصية التي أدخلت التصوف إلى فلسطين، بقدر العلم أن المسلك قديم في الأراضي المقدسة، وقد دخلها بعد ظهور التصوف بفترة وجيزة.محورية الصوفية في الإسلام، وقدرتها على الاستقطاب، حافظت على المنهج حياً وقائماً في فلسطين، رغم انتشار الحركات الإسلامية السياسية، كما أن التصوف وجد في الجغرافيا الفلسطينية بيئة روحية خصبة، تساعد على النمو والحياة، نظراً إلى تعدّد الأماكن المقدسة، ومنها المسجد الأقصى المبارك، والحرم الإبراهيمي الشريف، وسواهما من البقاع الطاهرة، وهذا الجو الروحي يعدّ ماء الحياة بالنسبة إلى الصوفيين، ولهذا تعدّدت طرق التزكية في البلاد، على اختلاف مسمياتها.

الطرق الصوفية في فلسطين عديدة، ومن شمال البلاد إلى جنوبها، تكاد لا تخلو محافظة من وجود صوفي بشكل أو بآخر، يتغيّر حجمه ودوره تبعاً للظروف. وقد وصل عدد الطرائق، وفق بعض الدراسات الميدانية، إلى نحو 16 طريقة، أبرزها: الرفاعية والخلوتية والقادرية والشاذلية والنقشبندية، لكن الرقم مبالغ فيه في الحقيقة، إذ إنّ لكل طريقة عدداً من الفروع، تُنسب إلى بعض الأولياء، الذين أضافوا إلى الطريقة الأمّ أورادهم وأساليبهم في تربية المريدين، ولذلك يوضع اسم عائلات بعض العارفين بالله، إلى جانب الاسم العام للطريقة التي ينتسبون إليها، دون أن يعني ذلك أنهم استقلوا بطريقة خاصة.
حافظت على الهوية الإسلامية وعزّزتها، وسط محاولات التهويد المستمرة، ولا سيما في القدس المحتلة


وتعدّ الطريقة الخلوتية إحدى أكثر الطرق الصوفية حضوراً وانتشاراً في فلسطين، رغم أنها قد لا تكون الأقدم وصولاً إلى البلاد. ومن فروعها الأبرز طريقة القاسمي الخلوتية الجامعة، التي سميت كذلك نسبة إلى مشايخها من آل القاسمي، ومؤسسها الأول محمد كريم الدين الخلوتي، وزواياها تنتشر في مدن: الخليل، اللد، الرملة، القدس، حيفا، يافا، طولكرم وسواها. وللطريقة نشاطات دينية واجتماعية وتربوية وثقافية، وتدير عدداً من الروضات والمدارس والكليات الدينية والعلمية والمكتبات ومراكز البحث.
وتعدّ الطريقتان القادرية والرفاعية أقدم الطرق في فلسطين، وكذلك الشاذلية والأحمدية، وهي تنتشر في مختلف مدن الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد حافظت على الهوية الإسلامية وعززتها، وسط محاولات التهويد المستمرة، ولا سيما في القدس المحتلة، حيث تحيي فرق الإنشاد الصوفية المقدسية أمسيات شهر رمضان المبارك في البلدة القديمة، وتحافظ على تراث المدينة دينياً وروحياً، مع الإشارة إلى أن الزاوية النقشبندية في القدس المحتلة - ويطلق عليها الزاوية الأزبكية أو البخارية - تحولت إلى متحف تراثي.


ويبدو لافتاً انتشار مصطلح «الزاوية» في مختلف أنحاء فلسطين، وهو يدل على الأماكن التي تقدم الخدمة والطعام وأعمال الخير، وتحتوي الفقير، وتعمّ فيها البركة، ومجالس الأنس، وكذلك وجود الكثير من أضرحة الأنبياء والأولياء والصالحين، مع العناية بها، وفي هذا دلالة على أن المنهج الصوفي له أصل راسخ في الأراضي المحتلة. مع الإشارة إلى أن الحكم العثماني يعدّ بمثابة العصر الذهبي للتصوف في فلسطين، حيث زاد بشكل كبير انتشار الطرق الصوفية، التي ساهمت في ما بعد بمواجهة الاحتلالَين الإنكليزي ثم الإسرائيلي.
وتجدر الإشارة إلى أن السلطة الفلسطينية أسست في عام 1996 المجلس اﻹسلامي الصوفي اﻷعلى في فلسطين، بهدف تنظيم مسار العمل الصوفي، والتعريف بالمنهج، وتعزيز الإسلام الوسطي، القائم على الكتاب والسنّة، ولكن هذا المجلس توقف لفترة بعد وفاة الرئيس الراحل ياسر عرفات، قبل أن يعاد افتتاحه مرة أخرى. ورغم أن التصوف شهد بعض موجات التراجع في فلسطين، لحساب الإسلام الحركي، إلا أن روحية المسلك ما زالت قائمة، على اعتبار أنه فكر مستنير، غير معزول عن القضايا الوطنية والإسلامية، وله إسهامات كبيرة في كثير من المجالات والمحطات الوطنية.