يسأل مراسل إحدى القنوات الإسرائيلية شاباً فلسطينياً أمام مخيم شعفاط، عن سبب وضعه لصورة إبراهيم النابلسي، فيجيبه الشاب: الله يرحم روحك يا إبراهيم النابلسي. يسأله مجدداً، عن شعوره، حين يسمع باسم «عرين الأسود»، فيجيبه الشاب: «بحس إنه إشي كبير، إشي منيح إشي حلو». ويسأله، عن أن الشرطة تقوم بالبحث عن الشاب الذي قتل الجندية عند حاجز مخيم شعفاط، فيقول له الشاب: «يدورو عليه يدورو عليه، خليه الله يحميه، انشالله ما بلاقوه».
رسم نهاد علم الدين

تلك الإجابات، مسار يعود إلى فلسطين، ترسمه أيادٍ لم تقبل بالذل «سبحانك.. كل الأشياء رضيت سوى الذل». هذا الفتى من مخيم شعفاط، كما يوحي التقرير للقناة الإسرائيلية، يبدو أنه ليس صحيحاً إن قلنا «لم يعد يقبل»، إنما الصحيح أنه لم يقبل منذ وُلد أن يكون «في قفصٍ في بيت السلطان»، والسلطان هنا احتلال، قتاله حرّ وإلزامي، ليس فقط لنيل حرية تأخرت 74 عاماً، بل لإنهاء الظلم والاستبداد في فلسطين والعالم الذي، بعد أن احتُلت فلسطين على أيدي الصهاينة، بات يتعامل مع الظلم على أنه أمر قابل للوجود دون استحياء، وبالتالي سيحصل في غير مكان من الأرض، وذلك إذا حضر شرط القوة أمام شرط «الضعف». فلغة القوة هي التي تقرّر فقط، وتفرض مفرداتها على الآخرين. لكن فلسطين تمكّنت من تغيير القواعد، فقد نجحت الأسطورة بأن تكون واقعية تماماً، وأن تتسلّل إلى أرواح الفلسطينيين، فيشعرُ حاملُ البندقية، والشاعر، والفلاح، والموظف، يشعرُ الشعبُ كلّه، أنه جزء من الأسطورة، فيفعل ما يفعل، ويحيا، أقلها، رافضاً للاستسلام -رغم استسلام قيادته- ويبقى على توازن حي في العالم. فشعب فلسطين يجد نفسه، من حيث يدري، يدافع عن بقايا القيم بين البشر، والبقايا تلك، تتمثل في شعب تتم شيطنته، ورفضه، ويراد له أن يصبح أطلالاً، بإرادة إسرائيل، لكن هذا الشعب يظل واقفاً، يقع ويقف، ويطلق من مسدسه حكاية للحياة «فانتصر أنت انتصر، سلمت يداك».
إن إجابة ذاك الشاب قبالة مخيم شعفاط، كانت قبل استشهاد عدي التميمي، واليوم مع كتابة هذه السطور، التحق عدي بإبراهيم النابلسي وأحمد جرار ومهند الحلبي وغيرهم من باقي الشهداء. لبّى الله دعاء الشاب بأن لا يجدوه، فعدي الذي عاد إليهم وأطلق النار عليهم عند مستوطنة «معاليه أدوميم»، فأطلقوا النار عليه، فقام، وقاوم، فأطلقوا، فقام وقاوم، فقاوم، وقاوم، حتى قام.
إن ما شاهدناه في صور كاميرات المراقبة، أثناء انقضاض عدي عليهم، يعيد النظر إلى تلك البطولات التي سمع معظمنا عنها في مواجهة إسرائيل، في الجبهات المختلفة، بعض القصص كانت تروى، ويشعر المرء أنها قصص مفبركة ومبالغ ببطولات أصحابها. لكننا رأينا بأم العين والقلب والعقل، ما فعله عدي، ما فعله الشهداء قبل عدي، وما سيفعله الشهداء بعد عدي، ما رأيناه، يؤكد أن البطولات لم تكن متوهمة، ولم تكن أقل من الوصف والإيضاح، بل كانت بمستوى القضية التي يذهب الجميع من أجلها، شهداء أو أسرى، مناضلين ومقاومين…
عدا عدي منذ ليال وحيداً، لا نعرف أين كان، وليس مهماً أن نعرف أكثر مما عرفنا، فكلهم كانوا يحلمون، باللحظة التالية للتخفي، باللحظة التي سيعاودون فيها الاشتباك، في الثانية التي ستخترق أجسادهم رصاصات الاحتلال، في الوصية التي ستبقى بعدهم لغيرهم، لنا، لي وأنا أكتب هذه الكلمات، وأتركها مرات لأقرأ وصية يُقال أنها لعدي موقّعة باسمه بتاريخ 10/11، ولأضعها هنا، ليقرأها من لم يقرأ بعد كل الكلام: «أنا المطارد عدي التميمي من مخيم الشهداء شعفاط. عمليتي في حاجز شعفاط كانت نقطة في بحر النضال الهادر. أعلم أنني سأستشهد عاجلاً أم آجلاً، وأعلم أني لم أحرر فلسطين بالعملية. ولكن نفذتها وأنا واضع هدفاً أمامي. أن تحرك العملية مئات من الشباب ليحملوا البندقية بعدي/ المطارد عدي 11-10».