بدأت في فلسطين قبل أيام رحلة قطف أشجار الزيتون، وكعادة الفلسطيني في كل عام؛ يحضر إلى الأرض التي ما فارقته طوال العام، لكن المهمة التي يسعى إليها، في هذا الموسم، هي الأطول وقتاً، والأكثر جهداً، والأغزر إنتاجاً. فيها يؤكد علاقته الأزلية بالأرض، وتتجاوز في بُعدها الاقتصادي، لتحطّ في أبعاد، يثبت فيها ملكيته الحقيقية للأرض، فهو ما يزال وحتى هذه اللحظة يمارس عادته التي ورثها عن الأجداد منذ قرون. ففي موسم قطاف الزيتون تتجدد تلك العادات، صحيح أن الحداثة أدخلت اليوم عوامل أخرى ساهمت إلى حد بعيد في تسهيل هذه المهمة، إلا أن موسم الهجرة إلى الجبال ما يزال تقليداً متبعاً منذ قرون. فمهمة القطاف تقع على عاتق العائلة الفلسطينية مجتمعة، فيها الجمع وتجديد للعلاقات الاجتماعية، وفيها تحريك لاقتصاد يخضع لثقل الاحتلال الذي لم يتوقف لحظة عن ممارساته التي تستهدف الأرض والإنسان.

زيتون فلسطين... معلومات عامة
تقدّر أعداد أشجار الزيتون التي ما زالت بحوزة الفلسطينيين، بأكثر من 10 ملايين شجرة؛ يسهم المحصول في 20% من الإنتاج الزراعي في فلسطين، وتقدّر عائداته المالية السنوية بأكثر من 300 مليون دولار، ويسهم في إعالة 100 ألف عائلة فلسطينية، كمصدر دخل أساسي، فيما فلسطين تعيش الاكتفاء الذاتي من الزيت والزيتون، وتصدّر كذلك إلى الخارج. وأمام تلك المعطيات، يتبيّن لنا أهمية وتأثيرات هذا الموسم على حياة الفلسطيني، إذ تحولت تلك المساهمة، إلى أداة في مقاومة الاحتلال، والانفكاك عن التبعية التي يفرضها على الاقتصاد الفلسطيني.
تقوم وزارة الزراعة الفلسطينية بالاهتمام بموضوع الأرض، تحديداً زراعة الأراضي البور بأشجار الزيتون، حيث توزع الوزارة سنوياً 200 ألف غرسة زيتون على المزارعين، وخلال العقدين الماضيين، ساعدت في استصلاح عشرات الآلاف من الدونمات، التي زرعت بأشجار الزيتون، إضافة إلى مساعدة المزارعين، بالإرشاد والدعم المالي وحفر آبار الماء لجمع مياه الأمطار التي حسنت المحصول وكمياته.

تراث متواصل ودائم
يتعامل المزارع الفلسطيني مع هذا الموسم ضمن رؤية كاملة ومتكاملة، يدرك فيها أهمية ما يملك، ومع الوقت تكرست عادات وتقاليد في التعامل مع هذا الموسم، تبدأ مع مطلع كل عام، بعملية التقليم، وفقاً لما ذكر لـ «الأخبار» المزارع والناشط الاجتماعي في جنين نائل زيود: «في هذه المرحلة تتم إزالة الأغصان التالفة والأغصان الداخلية، لمساعدة الشجرة من زيادة النمو، مع استمرار الجهد والمراقبة الدائمة طوال العام، على الرغم من أن شجرة الزيتون معمرة وقوية البنية، إلا أنها قد تتعرض إلى أمراض قد تصيبها وتتلف المحصول». ففي السنوات الأخيرة أصيبت الأشجار بمرض «عين الطاووس» الذي يؤدي إلى تلف في الورق ومن ثم الثمر، بحسب ما شرح المزارع والأستاذ المتقاعد خالد جرادات لـ «الأخبار» الذي أشار أيضاً إلى أن المزارعين احتاطوا لهذا الأمر، عبر دهن سيقان الأشجار بـ «الشيد» لتعقيمها.

الزيت عمار البيت
العبارة السابقة، مثلٌ فلسطيني، يختصر أهمية هذا الموسم في حياة المزارع الفلسطيني، ولأنه عمار البيت تساهم العائلة مجتمعة، في المشاركة فيه، وتتولى مهمة إنجازه، فعائلة زيود، تبدأ يومها وفق التقاليد المتبعة بالتوجه صباحاً إلى الأرض حتى ساعات المساء، يقول زيود: «نصطحب معنا، كل مستلزماتنا، من المأكل والمشرب، وقد تزيد الكلفة عن الأيام العادية في البيت، نظراً للجهد المبذول، فالمطبخ في هذا الموسم يكون في الحقول». وتتولى والدة نائل مهمة إعداد الطعام، إضافة إلى لمّ ثمار الزيتون عن المفارش المعدة لهذا الغرض. أمّا عملية القطف، فهي عملية صعبة جداً يتولاها الشباب، والقادرون على الصعود إلى أعلى الشجرة، حيث يستخدمون العصي المتعددة الأسماء والأغراض، والتي فصّلها لنا جرادات كالتالي: «النكافة: عصا صغيرة مهمتها إسقاط الثمر المتواجد على الأغصان الظاهرة، العبية: عصا مخصصة لداخل الشجرة، العراد: عصا طويلة تصيب أعلى غصن الشجرة».

الموسم بين الأمس واليوم
قديماً كانت الأراضي كبيرة المساحة، ولهذا كان صاحب الأرض يلجأ إلى طلب العون (الفزعة) من الأقارب والجيران، وإلى عمال بالأجرة لهذه المهمة «الجدادين»، مقابل أجر يومي، أو يقوم بتضمين الأرض في هذا الموسم لأشخاص لا يملكون أرضاً زراعية. وتختلف نسبة تقاسم المحصول، فقديماً كانت النسبة لا تتعدى الثلث وفق ما ذكره زيود؛ أمّا اليوم فالبعض يطرح نسبة 40%، وأحياناً النصف إذا شارك الضامن بالعناية بالأرض. ويضيف جرادات أن «الجامعات الفلسطينية، وعلى رأسها جامعة بير زيت وجامعة النجاح، قد فرضت مساقاً جامعياً يتعدى 100 ساعة عمل تطوعي، لخدمة المجتمع، يقضيها الطلاب في مساعدة المزارعين على عملية القطف» ولفت جرادات إلى أن جامعة بير زيت مثلاً، تتخذ من شجرة الزيتون، شعاراً لها.

في وصف حبة الزيتون
أبدع المزارع الفلسطيني، في وصف حبة الزيتون، سواء المعد للأكل، أو للعصر، فالأخير ضربت فيه الأمثال، من خبرة المزارعين الفلسطينيين، المتراكمة نتيجة مداومته وعلاقته مع الزيتون، والتي جعلته يقول بلهجته الفلسطينية «الصرّي زيته طيب، أما لقاطه بشيب»، والصرّي، هو حب الزيتون الأسود الصغير الذي يستلزم جهداً أكبر في قطافه، أمّا «النيبال زيته سيال، وحتى لقاطه عجال، عجال» فهو سريع القطف، إضافة لاحتوائه على كمية كبيرة من الزيت.
وأمام تلك الأمثال التي حاكها الفلاح الفلسطيني في وصف حبة الزيتون، جراء خبرة وعمل الأحفاد والأبناء والأجداد وأجداد الأجداد في الأراضي والزيتون، لا بد من الانتباه إلى تلك العلاقة التي يحاول الاحتلال الإيهام بها مع الأرض والزيتون، والتي يدركها أي مراقب، أن لا علاقة بين هؤلاء والأرض. فالاحتلال يتعامل مع شجرة الزيتون، وفق منظار حداثي، نفعي، حيث أقدم على اقتلاع أشجار الزيتون التي صادرها، بعد احتلاله لفلسطين، وزرع أشجار زيتون، صغيرة الحجم، مخصصة للأكل، لا يوجد زيت فيها. إضافة إلى هذا، فإن الأراضي المزروعة في الزيتون، هي ملكية عامة لدولة الاحتلال، تؤجر إلى شركات خاصة، تستأجر العمالة الفلسطينية لقطفها، في مفارقة عجيبة، حيث يعود الفلسطيني إلى أرضه، من باب جديد، بعد أن ثبت بالدليل القاطع أن سر التعامل مع الأرض، لا يفهمه إلا أصحابها.

الجيروعة أو الجاروعة
يختتم الفلسطيني موسمه، في احتفال ما زال قائماً حتى هذا الوقت، وفق تقليد اتبعه منذ مئات السنين، أطلق عليه تسمية «الجيروعة» حيث يقوم بتحضير أكلة «المسخن». فبعد الانتهاء من موسم قطف الزيتون، يتم الإعداد لهذه العزيمة، التي يدعى إليها كل من شارك في هذا الموسم، من العائلة والأقارب، والعمال، يقول زيود، وهو أيضاً خبير بالتراث الفلسطيني، أن أصل التسمية يعود إلى أن الفلاح الفلسطيني يستخدم أكبر كمية من زيت الزيتون من المحصول الجديد، ليضعها على الخبز والدجاج المكون لأكلة «المسخن» احتفالاً بانتهاء الموسم، وتكريماً لجميع العاملين.

رحلة الحج إلى فلسطين
في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، بدأت الوفود الأجنبية بزيارة فلسطين، وعلى الأغلب كانت تلك الوفود تهدف للاطلاع المباشر على الصراع، واكتشاف الرواية الأصلية. لم تكن مهمة تلك الوفود سهلة، فقد وضع الاحتلال الإسرائيلي العراقيل ليمنع التواصل والاحتكاك مع الفلسطينيين، ومن خلال الوفود الأكاديمية الأجنبية التي زارت الجامعات الفلسطينية، بدأت رحلة البحث عن الحقيقة، وانتهت بزيارات دورية، تكللت بحملات تطوعية لمساعدة الفلاحين الفلسطينيين، في قطف مواسمهم الزراعية، وبالتحديد موسم الزيتون، هناك اطلع المتضامنون الأجانب على حقيقة الصراع بالعين المجردة، حيث شاهدوا بأم أعينهم، الهجمات الوحشية للمستوطنين وقوات الاحتلال، على المزارعين وأراضيهم لاقتلاع وحرق أشجار الزيتون، أمام أعين الجنود، وأمام المتضامنين الأجانب.
عشرات الآلاف منهم زاروا فلسطين، وتطوعوا في الأرض، وقاموا بنقل الرواية الفلسطينية لشعوبهم وبلدانهم، لتكون النتيجة لاحقاً حج سنوي لوفود أجنبية إلى فلسطين، تساعد الفلسطينيين في عمليات القطاف، ودعم المنتج الفلسطيني، تحديداً زيت الزيتون، عبر شرائه وبيعه في بلدانهم، في لفتة تضامنية تتخطى بعدها الاقتصادي، لتصل البعد السياسي والتاريخي للقضية، تحت شعار «صنع في فلسطين».

الأرض المهددة بالمصادرة
يدرك الاحتلال في فعله الاستعماري، أن أولى الخطوات لاستيلائه على الأرض الفلسطينية، تبدأ بقطع العلاقة بين الفلاح الفلسطيني وأرضه، عبر جملة من الإجراءات، تبدأ بالذرائع الأمنية، لتنتهي بالسيطرة على الأرض. اليوم في الضفة الغربية عشرات الآلاف من الدونمات المزروعة بأشجار الزيتون تقع خلف جدار الضم العنصري، حيث يمنع أصحاب الأرض من زيارتها، إلا ضمن تصاريح خاصة، وفي أوقات محددة، مع خشية دائمة لدى أصحاب الأرض، من مصادرتها فيما بعد.
في الانتفاضة الأولى، بدأ الاحتلال بسياسة قطع أشجار الزيتون، في أرياف الضفة الغربية، وفي عزّ حملته القمعية، أقدم في أحد القرى، إلى اعتقال مئات الشبان، من دون تهمة محددة، كما قام بإطلاق النار على الحيوانات وقتلها؛ أحد عجائز القرية، قال للحاكم العسكري، أثناء استدعاء كبار السن، للضغط على الشباب، لوقف الانتفاضة، «أستطيع اليوم أن أموت مستريحاً، لقد شاهدتكم كيف تتعاملون مع الإنسان والحيوان والشجر، من يقتل الأحياء لا يدوم، لقد اقتربت نهايتكم، من يفعل هذا ليس له أدنى علاقة بهذه البلاد، لقد حان وقت رحيلكم، كما رحل الغزاة قبلكم».