في لحظات تجد نفسك، تنتقل بسرعة من محطة إلى أخرى، ومن شخصية إلى شخصية أخرى، ومن حياة الرتابة إلى حياة مليئة بالمغامرات والتحديات، وكل ذلك على إيقاع القناعات المخبوءة في داخلك، إنها الانتفاضة، تفعل فعلها، وتقودك إلى اكتساب خبرات معرفية وعملية، لولاها لم تكن لتصل إليها.لقد قيل عن انتفاضة الحجارة في فلسطين الكثير، كتابات وثّقت أحداثها، أشعار، وروايات، ويوميات، وتحليلات سياسية، لكن التجربة بالفعل أوسع من ذلك، إنها تاريخ لمن عاصروها، وعايشوها، تاريخ ممتدّ حتى هذه اللحظة، فكيف وهي التي شكّلت الوعي الفردي والجمعي، لأمّة خرجت تفتش عن نفسها، في لحظة النسيان والتجاهل المزمن لها، وتحت زخات رصاص أعدائها، بدمها صنعت ملحمتها في الانتفاضة الكبرى وكتبت تاريخها، وهي التي لا تزال حتى هذا الوقت مشتعلة، ويحملها جيل جديد، من الشباب الثائر، لكن البدايات هي التي أسهمت وإلى حدّ بعيد في رسم معالم هذه المرحلة.

كسرنا حاجز الخوف
في المدرسة، ومع نهاية سنة 1987، وبداية سنة 1988، كانت فلسطين على موعد جديد مع نداء الحرية الذي دوّى في مخيم جباليا في قطاع غزة، ليصل صداه بعد يومين إلى مخيم بلاطة في نابلس. الزملاء يتهامسون في ساحة المدرسة، يتناقلون الأخبار التي تصل من غزة ومن نابلس، ويسألون، ما العمل؟ لم نكن ندري أن بيننا، من يتجهّز لأخذنا معه إلى درب الحرية، في اليوم التالي جاء محمد الذي يكبرني بسنة واحدة، وطلب مني الاستعداد غداً، للخروج بتظاهرة. في صباح اليوم التالي، كانت قريتي السيلة الحارثية وثانويتها في جنين، هي السبّاقة لنداء جباليا وبلاطة، أربعة أيام فقط، لنخرج كل هذا المخزون من الحب والفرح والانتماء لفلسطين الكبرى، ولتتحول أيامنا بعدها إلى زمن جديد، زمن الانتفاضة.

فتية الصف
أشهر قليلة بعد اندلاع الانتفاضة، كان جميع من في صفي المدرسي منخرط في أنشطة الانتفاضة، الكل تقريباً ينتمي إلى إحدى المنظمات الفلسطينية، المدرسة بأكملها تناضل، هذا مع أننا، كنا قبل أيام ننتمي إلى جيل آخر، جيل يعيش همّه اليومي، ولديه أحلام شخصية، في الجامعة والوظيفة، أقف اليوم لأعدّ أسماءهم، وأين هم الآن، صالح وأيمن استشهدا في الانتفاضة الثانية، وبشار في الأسر منذ عشرين عاماً، أحمد ورشيد ومصطفى شكّلوا خليّة عسكرية، وغيرهم كتبوا الشعر، والرواية.
منذ الأشهر الأولى للانتفاضة، لم يعد أحد على الحياد، كل من في الصف تجنّد لها، حسب وعيه وإمكاناته وخياراته، لكن الجميع انخرطوا في الأنشطة الشعبية والتظاهرات التي كان عمادها ووقودها مدرستي الثانوية. أيام الأسبوع قسّمت على هدي تلك الأنشطة. بسبب ذلك، أدرك الاحتلال، منذ اللحظة الأولى للانتفاضة، الخطورة التي شكّلتها المدرسة عليه، فعمل من حينها على محاصرتها وترويع الطلبة بهدف منعهم من الانخراط. وعلى الرغم من هذا، فإن تلك السياسات لم تثمر إلا مزيداً من الانخراط، فلجأ إلى إطلاق النار المباشر علينا. عشرات الإصابات بالأعيرة النارية، أصابت الطلبة في الأشهر الأولى من عمر الانتفاضة، وبعدها جاء الاعتقال الأول والثاني، هناك التقينا معاً، أبناء جنين والخليل وقلقيلية ومخيم الفارعة وغيرها من المناطق، ربما قد زار السجن، في تلك الفترة، أكثر من نصف طلبة المدرسة. ومع أن فترة الاعتقال كانت قصيرة نسبياً ولم تتجاوز بضعة أشهر، إلا أنها كانت كفيلة بصقل الشخصية ومدّها بالتجارب. ففي المعتقل يلتقي كل أبناء الضفة، وهناك يزاوجون الخبرات، ويفشل المحتل في تحويل السجن إلى أداة للعقاب كما أراد، فما يحدث هو ما كنا نريد.
أتذكّر أحد الأصدقاء وهو يحدّثنا في المدرسة عن بطولة وشجاعة سناء الفتاة، التي فجّرت نفسها بقافلة عسكرية لقوات الاحتلال

ففي الليالي المقمرة غنّينا داخل الخيمة، وأذكر في إحدى الليالي أننا سمعنا صوت بكاء يشبه العويل. التفتنا نحو صاحب الصوت، وإذا به أحمد من مخيم جنين. حاولنا جميعاً مواساته، ومعرفة سبب هذا البكاء في تلك الساعة المتأخرة من الليل. الكل منهمكون بافتراض السبب، وأحمد لا يجيب، وبعدما عدّ المعتقلون كل الأسباب الموجبة لهذا البكاء، ظل أحمد صامتاً. وبدلاً من هذا، كان يجيب بهزّ الرأس، إشارة إلى النفي. مرت دقائق، أجاب بعدها أحمد عن السبب الذي دفعه إلى البكاء. أخبرنا أن له ثلاثة إخوة داخل المعتقلات، وأن والدته عجوز ووحيدة الآن، ولديه العديد من الحيوانات الأليفة، كان يعتني بها، والآن لا يعرف من الذي يطعم تلك الحيوانات ويسقيها، فهو يخشى عليها من الهلاك. أحمد، صاحب القلب المرهف والحساس، لم يهزمه السجن ولا السجّان، هزمته إنسانيته أمام الغياب عن البيت وتولّي المسؤوليات. أمضينا تلك الليلة ضاحكين مندهشين، نسأل من أيّ طينة أحمد؟ وكيف استطاع أن يخبّئ في قلبه كل هذا الحب والعطف والرفق بالحيوان. بعدها جاءنا أمجد، ملابسه ملطخة بالدم، بقي طوال فترة الاعتقال ملازماً لها، الدماء التي سالت منه في غرفة التحقيق وغطّت ملابسه، رفض أن يخلعها لأنها هدية من حبيبته، متعهّداً أن تبقى معه حتى اللقاء بعد الإفراج.
أحداث كثيرة مرّت داخل السجن، كلها تشبه أصحابها. أحدهم في وقت الزيارة القصيرة، كان يسأل أهله عن الحي والأصحاب. كان بجانبي، سمعته يسأل عن حمدة. عند انتهاء الزيارة، ونحن عائدون إلى القسم، سألته من تكون حمدة، فالاسم يحمل غرابة، أجابني بأنها مئذنة المسجد القريب من بيته، حيث اعتاد أن يشرب قهوته الصباحية أمامها، ويستعيد شريط الذكريات. لكل سجين حكايات يرويها، حكايات شخصية، لكنها في الجمع حكايتنا. في المعتقل ينهل الجميع من تجارب الآخرين، لتتحول الانتفاضة إلى ملحمة صنعتها إرادة الشعب بكل أطيافه.

قبل الانتفاضة
لا بد من الإطلالة على المشهد العام الذي سبق الانتفاضة بسنوات قليلة، والذي أسهم إلى حد بعيد في اندلاعها لتأخذ هذا المدى الواسع. فقبل سنتين، كانت فلسطين على موعد مع صفقة لتبادل الأسرى، حيث خرج من السجن أكثر من ألف أسير، خرجوا إلى بيوتهم في مختلف مدن وقرى ومخيمات الضفة وقطاع غزة، أقيمت الأعراس لهم والاحتفالات. هذه الصفقة أسهمت إلى حد بعيد في رفع المعنويات، ثم تلتها عمليات قادمة من جنوب لبنان، حيث عبر الفدائيون البحر ليصلوا إلى شواطئ نهاريا في شمال فلسطين، وبعدها عبر الشهيد خالد أكر ليؤدب معسكرهم الذي سمّوه معسكر الأبطال. ومن كان يتصوّر أثر هذا الدخول؟ شاب واحد قادم من سماء لبنان، يستطيع أن يقتحم معسكراً كاملاً للقوات الخاصة، ويقتل ويجرح العشرات من جنودهم. مشهد البطولة أعاد للروح الفلسطينية تألّقها وأمدّها بالحياة، وكان اسماً على مسمّى، خالد. لقد حضر في يوميات الانتفاضة كأحد أبطالها، كما حضرت سناء محيدلي، أتذكّر أحد الأصدقاء وهو يحدثنا في المدرسة عن بطولة وشجاعة سناء الفتاة، التي فجّرت نفسها بقافلة عسكرية لقوات الاحتلال.
كل تلك الأحداث كان لها دور مهمّ في اشتعال نار الانتفاضة وساهمت بدورها، في الإجابة عن سؤال الانتفاضة، وهو كيف يمكن التخلص من الاحتلال؟ وإذا بالجواب يأتي من دماء الشهداء، وأن الطريق هي المقاومة.

الحارثية تحاكي الثورة
منذ اليوم الأول للانتفاضة الكبرى وحتى هذا الوقت، كبرت أعمارنا، ولا تزال الحارثية تمدّها بالثورة والرجال. سنوات الغياب لم تمنعني من المتابعة. أبناء الأصدقاء اليوم في عمر الشباب، يحملون همّ فلسطين، ويمضون يتلون الحكاية، يجدّدونها. الشباب عمود خيمة الوطن، لم يرثوا غير هذا اليقين أن لحظة الحقيقة قادمة لا محالة، تبطئ حيناً، وحيناً تسرع في خطواتها، لنقفل وإلى الأبد باب النكبة، ونفتح الباب للفرح وللعائدين بعد طول غياب.