أطلقت مؤسسة الدراسات الفلسطينية قبل بضعة أشهر موقع «الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية»، ويبدو الجهد المبذول فيها، هائلاً بالنظر إلى كم المعلومات المتوافرة في صفحاته الكثيرة، إذ تكاد لا توجد مسألة مرتبطة بفلسطين لا توجد حولها معلومة مدعمة بالمصادر والمراجع، وبالنظر إلى الكتّاب والمؤلفين فيها، فهم جميعاً ممن يشهد لهم بالأمانة والرصانة العلمية والمعرفية، من رئيس تحريرها الدكتور كميل منصور ورئيس تحريرها المشارك الدكتور ماهر الشريف، وغيرهما من الأسماء العالية في مجال البحث بالقضية الفلسطينية، فضلاً عن أن هذا المشروع، هو واحد من أعمال مؤسسة الدراسات الفلسطينية العريقة بإنتاجها العلمي المرجعي المتخصص حصراً بالقضية الفلسطينية وما يتعلق بها.

تبدو أهمية الموسوعة مضاعفة، إذا ما تم الانتباه إلى الاهتمام الذي بدأ يكبر في السنوات الأخيرة بتعليم فلسطين والقضية الفلسطينية، سواء بمبادرات محلية صغيرة أو بمبادرات أخرى مؤسساتية.
يمكن ملاحظة المبادرات المحلية، في المخيمات، وداخل الأندية الثقافية كالنادي الثقافي الفلسطيني في مخيم مار الياس في بيروت، ومخيم البداوي في طرابلس شمال لبنان، وفي مركز النقب بمخيم برج البراجنة جنوب العاصمة بيروت.
تُعنى هذه المبادرات، بتثقيف الناشئة حول قضيتهم الفلسطينية من جوانبها المتعددة، الجغرافيا والتاريخ بشكل رئيسي، ومن خلالهما، تجري محاولات رفع سوية الوعي بالقضية الفلسطينية، على الرغم من غياب مناهج علمية لمثل هذه الأمور، باستثناء ما قدمته مؤسسة الدراسات الفلسطينية في ثمانينيات القرن الماضي، من كتب مدرسية أعدّتها المؤسسة عن فلسطين والقضية الفلسطينية ماضياً وحاضراً، بعنوان «فلسطين: تاريخها وقضيتها» تغطي المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية، وكما توضح المؤسسة على موقعها، بأن المنهاج، يمكن تدريسه في مدارس الدول العربية، إمّا كمادة في المنهاج الدراسي المقرر، وإمّا كمادة ملحقة بالمنهاج، وإمّا كمادة للمطالعة المدرسية.
هذا المنهاج الفلسطيني المهم والغني، والمشغول بأيدي خيرة الباحثين والأكاديميين الفلسطينيين والعرب، يتم الاستناد إليه في مثل تلك اللقاءات التعليمية - التعريفية، لكن الأجيال المعاصرة، تحتاج إلى ما هو تفاعلي، يمكّنها من التواصل مع المادة المقدمة بأساليب أخرى، تختلف عن تلك المتبعة بالتلقين. والمشكلة هنا، لا تتعلق بالمنهاج، فهو ابن زمنه وزمن أجيال سابقة في ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم، بينما الناشئة اليوم، تلجأ لوسائل تكنولوجية، لم يعد بوسعها تقبل المواد بسهولة، بلا طرق تقديم سمعية وبصرية.
ومع ذلك، صدر في لبنان «منهج فلسطين للناشئة» عام 2017، وهو عبارة عن 6 كتب تعليمية صغيرة، من إنتاج مؤسسة «فارس الغد»، تضمنت رسومات ملونة، لتدعيم المعلومات عن مكانة فلسطين وبيت المقدس في الإسلام، وجغرافية فلسطين، وتاريخ فلسطين في العصرين القديم والإسلامي، وتاريخ فلسطين الحديث، والمدن الفلسطينية، والتعريف عن عدد من الشخصيات الفلسطينية.
تمعن «الأونروا» في تغييب القضية الفلسطينية عن صفوفها، وبالتالي عن عقول الطلبة الفلسطينيين


وصدرت أيضاً مراجع للناشئة، من مؤسسات ومراكز عاملة في لبنان كمركز المعلومات العربي للفنون الشعبية «الجنى» الذي أصدر مورد «يا بلدنا ليش هجرتينا؟» وهو حكاية تتناول «تغريبة أحمد ومريم» لتعريف الناشئة باقتلاع سنة 1948، وما الذي حصل مع الآباء والأجداد في فلسطين، وقد اعتمد المورد في جانب كبير منه على التاريخ الشفوي الذي سجلته «الجنى»، وهناك قيمة مضافة في هذا المورد، هي الأنشطة التي يمكن اتباعها لتقديم المعلومات في المورد، ويندرج هذا الأسلوب بحسب تعريف «الجنى» ضمن مفهوم «التعلم الفاعل»، والذي يستخدمه المركز أيضاً بإدخال الناشئة ضمن عملية البحث والتوثيق مع كبار السن الفلسطينيين في المخيمات والتجمعات، واستخراج ما لدى هؤلاء الصغار من إبداع كـ «صحافيين وباحثين صغار» للتعبير عما سمعوه من الكبار، وكان آخر ما نفذه مركز «الجنى» في السنوات الماضية، قيام الناشئة في بعض المخيمات، بتحديد أماكن البيوت والمساجد والكنائس والأراضي في القرى الفلسطينية المهجرة على خرائط القرى، مع كبار السن من تلك القرى. أيضاً، انطلقت مبادرة شبابية في لبنان هي «الحملة الأهلية من أجل الحق في تعلم تاريخ فلسطين»، وسعت هذه الحملة إلى تعليم تاريخ فلسطين وحاضرها وجغرافيتها للأطفال والطلاب والشباب الفلسطينيّين، باعتبار أنّ هذه المادة التعليمية والتثقيفية، تحصّن الهوية الوطنيّة وتبني الذاكرة الجماعيّة، وشملت هذه الحملة، إضافة إلى الشباب، مجموعة كبيرة من الأكاديميين والباحثين والناشطين والمهتمين بالشأن الفلسطيني الذين أجمعوا، على أنّ تلك المسألة الحيوية تحتاج إلى جهد كبير، وعمل حثيث يبدأ في المخيم لينتشر إلى كل الشعب الفلسطيني.
في عام 2017 قامت مبادرات فلسطينية أخرى، حملت همّ تعليم الثورة الفلسطينية، كأداة لفهم الذات الفلسطينية المقاومة، هذه المبادرة كانت موقع «الثورة الفلسطينية» على الإنترنت (المتوقف منذ مدة) والذي اعتمد منهجاً أكاديمياً في تقديم الثورة الفلسطينية، واشتمل على وثائق يمكن الذهاب إليها أثناء القراءة (هايبر لينك) وفيديوهات على موقع «يوتيوب» (القناة موجودة حتى الآن) عبارة عن مقابلات مع شخصيات فلسطينية وعربية عاصرت أحداثاً يتناولها درس ما ضمن المنهج.
والموقع ومنهاجه، أتى نتاجاً لبرنامج أطلق تحت إشراف البروفسورة كرمة النابلسي (كلية سانت إدموند هول، قسْم السياسة والعلاقات الدولية، جامعة أكسفورد) وتمّت استضافته من قبل قسم السياسة والعلاقات الدولية بجامعة أكسفورد وبدعم من الأكاديمية البريطانية (The British Academy).
تلك الإصدارات والموارد والنشاطات، وعلى الرغم من توزيعها وتوافرها في المخيمات وخارجها أحياناً، إلا أن دائرتها لم تتسع كفاية لتشمل معظم الفلسطينيين والعرب. والسبب يعود إلى بقاء تلك الإصدارات في حيزها، من دون الخروج إلى الحيز الرسمي ضمن البيئة التعليمية والتربوية الرسمية. ويعود سبب ذلك إلى عدم تبني خطة منهجية ضمن مدارس «الأونروا» على الأقل لتعليم فلسطين وقضيتها، جراء الضغوط السياسية بشكل أساسي.
تلك المبادرات وغيرها، مجتمعة ومتفرقة، مهمة، لكنها غير كافية، من غير قيام منظمة التحرير الفلسطينية، بهذا الدور الأساسي المنوط بها، لما تشكله من حالة معنوية للشعب الفلسطيني، ومن حالة المؤسسة الممثلة له (الدولة المعنوية)، في حين أن المنظمة ذاتها، لا تفكر بأن تقدم مبادرة شبيهة، أو سبّاقة كمثل أي من المبادرات السابقة، ولا تقوم أيضاً بممارسة سلطتها كممثل للشعب الفلسطيني (وهذا أهم من أن تنتج موارد)، على «الأونروا» التي تمعن بتغييب القضية الفلسطينية عن صفوفها، بالتالي عن عقول الطلبة الفلسطينيين، حتى أنها مثلاً، طلت منذ مدة صغيرة، جدران مدارسها في مخيم البداوي بالأبيض، لتمسح رسومات فنانين وفنانات من المخيم، تدل على الثورة والمقاومة والشهداء.