«متحف مفتوح، دخوله مجاني»، هكذا تصف الفنانة الفلسطينية تانيا النابلسي مخيّمات لبنان، التي تنقّلت بينها لتصنع لوحاتها وأفكارها. على جدار إسمنتي تابع لمدرسة «أونروا» في مخيّم البداوي، تتوكأ تانيا على عكازها، لتضع لمساتها الأخيرة على رسم لامرأتين فلسطينيتين تحملان السلاح، ليس بعيداً عنها رسوم غرافيتي أخرى تجمّل جدران المخيّم، تتنوع بين الكتابة (كاريوغراف) وأخرى تشكيلية تعبّر عن الأفكار السياسية والاجتماعية لأهالي المخيم اتجاه قضيتهم الوطنية.

لن يجهد باحث عن المخيّم في محافظات لبنان، فإما أن يدله عابر في الطريق، أو يدله سور مرتفع تعلوه أبراج مراقبة وأسلاك شائكة، يقاوم اللاجئون الفلسطينيون برسومات عدة على السور، كالموجودة على بعض مداخل مخيّم عين الحلوة في صيدا جنوب لبنان.
بصرياً، المخيم هو مجموعة أبنية متقاربة حد التلاصق، تربطها شبكة عشوائية من أسلاك وكابلات الكهرباء، وأنابيب المياه، كلهم يسيرون معاً إلى بيوت اللاجئين. لكن ما يخفف من حدة وقسوة المشهد اليومي للاجئين، الجدران والأزقة الملونة، المساحة الوحيدة داخل المخيّم المتاحة لأهاليه للتعبير عن هويتهم الفلسطينية، وعن روايتهم حول اللجوء.

ما تتم مشاهدته في المخيّمات، استمرار تاريخي لاستخدام الفصائل الفلسطينية الجدران، كمساحات «غرافيتي» لبوستراتها وبياناتها. فلا يمكن تمييز ظهور فن «الغرافيتي» في المخيّمات عن أصل وجود المخيّمات؛ «إن تاريخ استخدام الفلسطينيين للجدران كوسيلة لا بديل لها لكتابة جميع أنواع الرسائل، قديمة قِدَم النضال الفلسطيني ذاته» (غرافيتي عربية - صادر باللغة الإنكليزية عن دار «من هنا إلى الشهرة» الألمانية للطباعة لمؤلفيه، اللبنانية باسكال زغبي، وفنان الغرافيتي الألماني دون كارل).
يغلب الطابع السياسي، للرسومات في المخيّمات، وكلها مرتبطة بشكل مباشر بالقضية الأم فلسطين، إلا أن بعضها ليس كذلك، ويصفها الفنان الفلسطيني سليم عاصي بـ«العبثية»، فعندما رأى مجموعة محالٍ تجارية في مخيّم الرشيدية مطلية بألوان زاهية، من دون أي فكرة سياسية «هربت منها، لأنها تشبه أوروبا التي هُجّر إليها أيضاً». دوافع ممارسة «الغرافيتي» بحسب عاصي ليست جمالية، فتحسين مشهد مكان سكنك، الذي وصلت إليه، بالذل والقهر، أمر مرفوض.

«لون المخيّم سيبقى رمادياً، ليدلل على ضياع العنوان والانتماء»، يضيف عاصي، ويعتبر أن «أي محاولة لتجميل المخيّم، هي تجميل للجوء، وضعف، لا يوصل إلى التحرر». ويرى عاصي أن الرسومات في المخيمات «يجب أن تبتعد عن الفصائل وتوجهاتهم ورموزهم وشهدائهم». تختلف معه تانيا بعض الشيء إذ تعتبر أنها يجب أن «تخلّد شخصيات كباسل الأعرج وغسان كنفاني وغيرهما من الرموز الفلسطينية». هذا الاختلاف يتسع أكثر مع الفنان الفلسطيني كمال إسماعيل الذي يعطي أولوية للفن السياسي، إلا أنه يرى، أن اللاجئ، عندما يصبح فناناً عليه ألا ينحصر في مجال معيّن. ولا يمكن إنكار وجود الدافع التجميلي للغرافيتي، أي محاولة، زيادة بعد جمالي، على الفضاء البصري العام للمخيّم.
«إن تاريخ استخدام الفلسطينيين للجدران كوسيلة لا بديل لها لكتابة جميع أنواع الرسائل، قديمة قِدَم النضال الفلسطيني ذاته»


«فن الشارع» هو للأفراد والجماعات، الذين لا يسعهم رفع الصوت، فيرفعون باليد فرشاة ويحكون. وهو دليل على غياب المنصات، التي تعبّر عن هذه المجموعات التي تلجأ إلى الجدران. قبل التسعينيات، كان «الغرافيتي» أداة رئيسة للتعبير عن الفصائل الفلسطينية، ولكن مع امتلاك معظم الفصائل الفلسطينية منصاتها الإعلامية على وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت الجدران مساحة الفنانين والأفراد المستقلين، بشكل رئيسي، إلى جانب مؤسسات المجتمع المدني، التي يسعى بعضها إلى جر هذا الفن إلى الجماليات والمواضيع الاجتماعية فقط. ففي شارع المدارس في مخيّم البداوي، تسعى «الأونروا» إلى إزالة الرسومات القديمة، واستبدالها برسومات «تربوية»، وهذا أمر يغضب الفنانين. بينما لجأت مجموعات تابعة لإحدى المؤسسات الممولة أوروبياً إلى إزالة بعض صور الشهداء، لتضع مكانها رسومات لـ«مزهريات».


شح الإمكانيات، يحول دون افتتاح منصات إعلامية مستقلة، بعيداً من التمويل، بالتالي تبقى الجدران منصات لعدد من شباب المخيّم، للتعبير عن الطاقة الإبداعية، والغضب، والانتماء إلى فلسطين. وممّا يفسر هذا الأمر، التكلفة المتدنّية، نسبياً، لأدوات الرسم على الجدران، فتانيا نابلسي، تحصل على بعض ألوانها من «النادي الثقافي الفلسطيني»، أو من أي مشاركة لها في رسم جماعي: «أجمع الألوان المتبقية، وأخزنها لأقوم برسومات جديدة».
يمنح المخيّم لسكانه حريات مختلفة عن الأماكن الأخرى في لبنان، فالمجال يبدو مفتوحاً أكثر للحديث حول القضايا السياسية، بالتالي وسائل التعبير عن هذه القضايا. فمثلاً، ليس هناك تدقيق على اختيار الجدار الذي يرغب الرسام باستخدامه لجداريّته، طالما لا يرتبط مباشرة بفصيل أو مؤسسة خاصة. تختار تانيا الجدران الأقل تضاريس، والأكثر إطلالة على الشوارع العامّة، فهدفها، ليس فقط الحفاظ على الذاكرة الجمعية للفلسطينيين في المخيّم، بل الآخر - زوار المخيم أيضاً.

وعلى الرغم من وجود تانيا، وغيرها من الفنانين في المخيّمات الذين يرسمون على الجدران، فإن «الغرافيتي» «موهبة مفقودة»، لأن أغلب الجداريّات تتآكل مع الوقت وتتعرّض للرطوبة و«النش»، فيعمد الأهالي إلى إزالتها، أو طليها. هذا الوضع لا ينطبق كثيراً على جداريّات سليم عاصي، فلوحاته تستطيع الصمود أكثر من غيرها في غالبية المخيّمات الفلسطينية: «أستخدم ألواناً ذات جودة عالية»، فضلاً عن كونه يبحث عن الجدران التي تناسبه بتأن. جداريّات المخيّمات تمدّ جسراً بين اللاجئين الفلسطينيين ووطنهم، تنطلق من واقع حالهم، تخبر قصة الشعب الفلسطيني لتصل إلى يقين العودة.