سياتل | قبل سنوات، غادرت مخيم مار إلياس في بيروت إلى لندن فأميركا، لإتمام تعليمي الجامعي، لم أكن الفلسطينية الوحيدة في ترحالي، كنا كثراً. حملت مغادرتي المخيّم وبيروت فرصة للالتقاء بفلسطينيين من خلفيّات مغايرةٍ عن تلك التي اعتدتها في المخيّم. وحملت هذه الفرصة لي ولغيري ممن غادرنا، أن نتعرّف إلى أبناء هويّتنا، باختلاف أوراقهم الثبوتيّة، واختلاف الجهات التي أصدرتها لهم؛ هوية خضراء أم زرقاء، جواز سفر أردني، وثيقةٍ سوريّة، ولائحة طويلة من الأوراق الثبوتية، تتكشف أمورها مع كلّ فلسطينيّ جديد ألتقيه في الخارج.تختلف هذه الأوراق الثبوتيّة، وتختلف معها حقوق حامليها بالسّفر والتجوال، سواء الصادرة عن الأردن، لبنان، سوريا، أراضي الـ48، الضفة، غزة، القدس. بيننا أُناس يستطيعون العيش في حيّ من أحياء القدس، ويُمنعون من زيارةِ حي آخر.
نتشارك الموسيقى، القصص، ونسهر على سماعِ قصصنا التي تتفرق في المكان وتلتقي في النتيجة، فكلنا نتشارك قصص المطارات والحدود، وكلنا نتشارك تعامل السلطات معنا، في الغالب التعامل ليس جيداً، وفي بعض الأحيان عنصري، قصصنا هي تكرار قصص أهلنا وأجدادنا.
تنتهي تلك السهرات بالانتباه إلى تفصيل غاية في الأهمية، بالنسبة إلينا نحن اللاجئين في سوريا ولبنان والأردن، أن المسافةَ بين بيروت وعكّا هي ذاتها تقريباً بين بيروت وطرابلس، ولا تقلّ كثيراً عن تلك الّتي تفصل دمشق عن طبريا.
في أميركا، تعرّفت إلى صديق من القدس، قال لي في مرة من المرات، بعفوية مفرطة، أن تقسيم المدن والشّوارع هنا، يُشبِه ذاكَ الذي في المستوطنات الصهيونيّة الحديثة البناء في القدس والضفة. ومنذ ذاك الحين، لم أستطِع أن أرى ناطحات السّحاب، إلا بوصفها أداة لتوصيف رأس المال المتطوّر، سوى كمستوطنات سرقت أرضَ السكان الأصليّين، لتبني مدناً مزدحمةً، تفوق فيها حقوق وفرص الرّجل الأبيض على سائر السّاكنين، مواطنين كانوا أم غير مواطنين.
تلخّص لي المشهد الاجتماعي والسياسي الأميركي، في دفترِ مذكّرات يوميّة أهدتني إيّاه مديرتي في العمل، وهو مقتبسٌ من كتاب ميشيل أوباما، عن قصّة حياتها. في هذا الدّفتر صفحات فارغة ليكتبَ فيها المرء أجوبةً عن أسئلةٍ تطرحها أوباما، لتساعد على التفريغ في الكتابة، ومن هذه الأسئلة، صِف ما يعني لكَ البيت، وكيف تُعرّفه؟ أينَ اتخذت حياتك منحنى شكّلها على ما هي اليوم؟
سرحتُ كثيراً في هذه الأسئلة، قبلَ أن أستدركَ أنّ دوري هنا، أمام هذا الدفتر، هو ليس أن أجيب عن أسئلته، بل أن أنتقدَ مجتمعاً يحتاجُ اليسار فيه لسرديّة بطوليّة.
فما هو البيت بالنّسبة لنا يا ميشيل؟ هل هو البيت، الذي دعم يساركِ واليمين في بلادك، الحركة الصهيونيّة لتسرقه في حيفا؟ أم هو البيت القائم في المخيّم الّذي قطعَ يسارك واليمين عنه تمويل «الأونروا»؟
لم أستطِع أن أرى ناطحات السّحاب، إلا بوصفها أداة لتوصيف رأس المال المتطوّر، سوى كمستوطنات سرقت أرضَ السكان الأصليين


وماذا عن المنحنى الذي غيّر لي مجرى حياتي؟ أهو ولادتي بهويّة زرقاء في مستشفى تقع بمخيّم؟ أم هو مغادرتي المخيّم، بحثاً عن فرصٍ في بلادٍ لم أعرف تحدّث لغتها بطلاقة؟ أم أنّه ديناميكيّة الأوراق التعريفيّة الفلسطينيّة التي فرضت علينا، نحن الذين لا تذكرة عودة واضحة لهم، من مطار واشنطن أو شيكاغو أو نيويورك.
استراتيجيّات متعدّدة للممارسة الفلسطينيّة، تتبلور في أُطرٍ متعددة، وتتّحد تحت منظور التضامن. لا شكّ أنّ وجودنا في هذه المستعمرات التي صارت ولايات، علّمنا أنّ الجوهرَ يكمُن في نُصرةِ المضطهَد أينما كان. لنجدَ العلمَ الفلسطينيّ مرفوعاً في أكبر تظاهرات العقد الأميركي الأخير، المنددة بالعنصريّة الممنهجة ضدّ السّود الأميركيّين.
علّمتنا هذه التجربة أنّ للفلسطينيين شركاء كُثُر في معركتهم ضدّ الاستعمار. ووجدنا أنّ مفتاح انتزاع الحريّة يكمن في التقاطعيّة مع تحرر الشعوب، التي سلبتها أميركا سيادتها بأساليب متفاوتة كفنزويلا وكوبا، وأرسلت لها على متن سفن وطائرات وسفارات، من يقمع شعوبها في الدول المجاورة للكيان الصهيوني الذي دعمت قيامه.
وعلى ذلك، تداركنا أنّ الحياد في قضايا القمع الاستعماري جريمة. سهرنا لمتابعة الأخبار في غزة والقدس والضفة والأراضي الفلسطينية المحتلة، من خلف الشاشات. وبالنّسبة للتلاميذ الجامعيّين، لم يكُن بوسعنا سوى تنظيم التظاهرات المحليّة الجامعيّة تضامناً، أو تنظيم الندوات. وعلى الرّغم من أنّ سياسات الجامعات طالما ما تطرقت لوصف هذه الفعاليّات على أنّها حملات توعية لما يجري شرق المحيط الأطلسي، إلّا أنّ التسمية كانت دوماً واضحةً لنا، هي إثباتٌ للوجود.
لا أظنّ أنّ أحدنا نظر يوماً إليها كحملات توعية، توعية لمن؟ لليسار الأميركي، الممثّل بجماعات ليبراليّة تُخصّص المليارات للاحتلال؟ أم لليمين الّذي يُهلّل لفوقية البيض على كل الفئات الأخرى؟
نحن لم نكن نخرج للتوعية، نحن كنا نخرج لأننا من فلسطين، ومن يخرج معنا، يتظاهر من أجل فلسطين، ولنقول لأميركا، «أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا».