بعدَ كلّ جولة عسكريّة تقودها إسرائيل، على قطعة من جنوبيّ فلسطين، غزّة وقضائها، ما تسمّيه إسرائيل اليوم «قطاعٌ غزّة»، يطلّ علينا المغامرون الإنسانويّون «المنافحون وحدهم» عن آلام غزّة، الباحثون عن رفعةٍ أخلاقويّة، لاعتباراتٍ منها أقربُ إلى العمالة، ومنها إلى الجهالة، وجلّهم يبحثون عن شرفِ «العقلانيّة» في ظلّ الحروب غير المتكافئة.هل واضحٌ من أقصد؟ جميعكم الآن تتخيّلون شخصاً أو موقفاً أو حزباً، صحيح؟
أنا من عندي لا أجد في هؤلاء حكمةً ولا أعتبرُ رأيهم في هذا الصدد، إلّا كلاماً فارغاً يُقرقعُ رأسك. مقولة هؤلاء، تندرج تحت شعار أنّ غزّة الآن في محل الاستهداف وحدها، فيقولون على سبيل المثال أنّ «غزّة ليسَ عليها أن تُقاوم وحدها أو تُقتل أو تدفع الفاتورة وحدها» (كأنّ الفلسطينيّ في نابلس مثلاً يملك قراراً في ذلك)، ويلمزون حركات المُقاومة بطرقٍ مُحدثة ومن دون الركون إلى جانبِ الاحتلال. هذهِ حقائق، ولكنّها تأتي وتنظّم وتُسرد ضمن خطابٍ كسول، غير نقديّ، لا تسعى إلى حلٍ أو سبر طريق ومسار نضاليّ، لا يوجّهون كلاماً أو ممارسةً إلى الاحتلال مثلاً، بل يوجّهون ذلك لنا وعلى منصّات «الفايسبوك» وغيره، وكأنه يجب أن ننظر ونقرأ لفُحش الكلام هذا، في لحظاتٍ عصيبة يُقتل فيها الطفلُ وتُهدم بيوت وتُباد عائلات.
هذهِ التوجّهات تصدرُ عادةً عن أصحابِ الانعزاليّات الفلسطينيّة، مثلاً تجد مناصري «المواطنة» في الداخل أكثر المقرقعين، وعلى هذا قِس، مناصري «السلطة الفلسطينيّة» أيضاً ستجدهم يخزقونَ أذنيك في كلامهم الأجوف. وكلٌ على طريقتهِ ومن دون أن يُفسد عليك إحساس أنّك تقف أمام فدائيّ أو مثقّف أو صحافيّ أو فنانّ تعجزُ الكلمات عن وصف «إبداعاتهم».
مرةً حدّثني صديقي عن أصحاب هذهِ الانعزاليّة في أيّام استهداف إسرائيل بالمجازر والقتل والإبادة لمخيّمات أهلنا في لبنان، وعلت أصوات عن الانعزاليين، وهي قريبة ممّا يصدرُ اليوم عن البعض، أصحاب المسارات السياسيّة الانعزاليّة (نضال خلف، «الأخبار»، الانعزالية الفلسطينية: خناجر «يا وحدنا»، 21 أيار 2022). وطبعاً هؤلاء يرونَ في هذهِ الممارسات الإسرائيليّة سبيلاً «للتفكير العقلانيّ» في قوّة إسرائيل وضعفنا وقدرتها على كذا وكذا... إلى ماذا تُريد أن تصل؟ إلى منطق «كلّ منطقة أدرى في شعابها»، وهو طبعاً لا يقصد خيار المُقاومة ولو اتفق كلّ من في الأرض على خيار السلاح، فهو لن يقبل. فهو يستمع إلى صوتٍ خافت في غياهب سردابٍ لأسلحةٍ من الحرب العالميّة الأولى في غزّة مثلاً، قائلاً «الحلّ السلميّ السريع، ولا تُقحمونا في المُشكلات الكُبرى».
لأقرّب الصورة أكثر فأكثر، بعدَ أن استتبّ الأمر على إسرائيل في عام 1949، مخيّمات لجوء محاذية، غزّة تحت الإدارة المصريّة والضفّة الغربيّة تحت الإدارة الأردنيّة، بالتالي، صنعت إسرائيل أربع حالاتٍ استعماريّة/ سياسيّة للشعبِ الفلسطينيّ؛ فمن منهم وقعَ تحت الاستهداف المُباشر واليوميّ لمدّة 18 عاماً؟ مجموعة من 150 ألف فلسطينيّ تقريباً، في الأرض المحتلّة يومها، أخذت حصّتها الأكبر من المعاناة والقتل والعزل والاحتجازات الجماعيّة. وانفجرت هذهِ المجموعة في عدّة مراحل، منها عام 1958، في انتفاضاتٍ محليّة عديدة وأشدّها قوةً وبأساً في الناصرة وأم الفحم؛ ثمّ الانتفاضة الأكبر منذُ الاحتلال عام 1976، التي أطلق عليها يوم الأرض.
ماذا حدثَ بعد ذلك، كيف صمّمت القيادة السياسيّة روايتنا منذُ نهاية سبعينيات القرن الماضي؟
أولاً، تشبّثت في الانعزاليّة الفلسطينيّة، ووضعت حدود الجغرافيا للفعل السياسيّ، وعلى أننا نقود نضالنا وحدنا، ولا «تُقحمونا في المُشكلات الكبرى»، إلّا كدعمٍ خارجيّ لكم (منظمّة التحرير الفلسطينيّة).
ثانياً، خلقت برنامجاً وطنيّاً على أسس الواقع الاستعماريّ السياسيّ الذي خُلق على أثر النكبة. وأقصد مسار المواطنة الكاملة والمساواة في الحقوق والواجبات ضمن «دولة تحقّق مصير اليهود، ولكنّها ديموقراطيّة يا شباب فلا تقلقوا ولا تحزنوا».
ثالثًا، ليسَ لأحدٍ من خارج هذهِ الجغرافيا السياسيّة أن يتحدّث في شأننا، فنعود للمقولة ذاتها، أنّ كلّ مجموعة أدرى بشعابها.
ملاحظة أخيرة: هذهِ فقط تساؤلات عديدة وملاحظات حولَ الانعزاليّة وتكوينها ومشروعها السياسيّ وتعبيراتها، ثمّ أنني أؤكد مرةً أخرى بعضهم فقط تقودهُ اعتبارات عمَالة ولكن جلّهم «عقلانويّة وأخلاقويّة» مهترئة.
مهمّ تأطير هذهِ الأصوات وفهمها في سياقها التاريخيّ، لكي نعي مدى تأثيرها على وعينا الوطنيّ الجمعيّ، وهل بإمكانها أن تُخرّب علينا مُنجزات حفرناها في أظافرنا أثناء اشتداد هبّة الكرامة في أيّار، «وحدة الساحات»، فلسطين من البحر للنهر، انخراط الهوامش الشعبيّة في النضال، استعادة الوعي في قدرتنا على تحرير أنفسنا ووطننا. تدمير المُنجزات الصغيرة المُتراكمة هو ما ستحققهُ هذهِ الأصوات ضمن دواعٍ أخلاقويّة، تشوّه حقيقة أنّه لا يهمّ ماذا تفعلهُ أمام هذا العدوّ، من إعلان سلمٍ أو حربٍ، لا يهمّ تتخلى عن حقوقك أو تتمسّك بها، سيبقى يُراقبك، يُطاردك ويجتهد لإخفاء وطن وإبادة شعب.