أشعل أحد المراقبين النيران على قمّة رامة بعيدة. كانت إشعاراً بأن العدو يتقدّم نحو القرية النائية. وعند تلة قريبة صدح صوت: اختبئوا. زحف الجيش، وأمطر المنطقة بالسهام. وعند اقتحامه خرج المختبئون وبدأت الحرب. هذا حصل عند احتلال غزة تاريخياً في أكثر من مناسبة، نظراً لكونها صلة الوصل بين مصر والشام، وكانت السيطرة عليها تعني بداية السيطرة على طرق الحرب والتجارة بين آسيا وأفريقيا.لطالما كانت المواجهة غير المباشرة بين رجل وآخر أو آخرين، تعني أن الشجاعة ليست مفيدة. بقي العنصر البشري هو الأهم في الاستطلاع والمراقبة والدفاع والهجوم، إلى أن تدخلت الثورة الصناعية، فطورت مفهوم القتال عُدة وخططاً. وعلى الرغم من كل التطور الإبداعي في القتل وأدواته، أصبح القطاع المحاصر صعب الاحتلال. في حين يهدّد الغزيّون، وبإمكانهم إعلان حالة الطوارئ في كل فلسطين المحتلة، فإن دوّت صفارات الإنذار بدأ الرعب عندهم والفرح عندنا.
ومع مرور الوقت، تحوّل الكشافون من إشعال النيران إلى آلة نفخية لها صوت قوي. إلى أن اخترع الإسكتلندي جون روبسون، في أواخر القرن الثامن عشر، جهازاً يصدر ضوضاء من خلال إصدار صوت عالٍ لاستخدامه كإشارة تحذير. ومن ثم ابتكر المهندس الفرنسي تشارلز كانيارد دي لا تور، آلة صوتية من هذا النوع في عام 1819، عبر تدوير قرص به فتحات متباعدة بشكل متساوٍ حول حافة صفارة الإنذار بسرعة عالية، يتسبب ذلك في حدوث موجة صوتية في الهواء المحيط. هكذا أصبحت للدول صافرات إنذار، للتحذير من عدو قادم أو قصف محتمل أو زلازل وسيول متوقعة. وكانت النقلة النوعية بصفارات الإنذار في الحربين العالميتين، لتقليل الخسائر المادية والبشرية، إلا أنها عند إسرائيل بداية الحرب.
كانت النقلة النوعية بصفارات الإنذار في الحربين العالميتين، لتقليل الخسائر المادية والبشرية


تفيد قناة «كان» العبرية بأن المستوطن شلومو أطياس (60 سنة) من سكان عسقلان، أصيب بنوبة قلبية عندما ركض هارباً نحو غرفة محصنة، بعد سماعه دوي الإنذار خلال جولة «وحدة الساحات»، ولقي مصرعه. وطالب شقيقه يوفال «الدولة» الاعتراف به كضحية للعملية العسكرية، وقال: «من الكذب القول إنه لم يقتل أحد في العملية العسكرية». هكذا خبر يشير إلى أن صافرات الإنذار لم تكن إيجابية، فهي بثّت الخوف والقلق في نفوس المحتلين. وربما مع الوقت يغيّر الاحتلال صافرات الإنذار بتطبيقات خاصة بالهواتف مثلاً، ليخفف من «الهلع». تخيّل أن محتلاً يصاب بالهلع، فماذا عن الضحايا في غزة، حيث لا توجد ملاجئ وبدل صفارات الإنذار، يطلق الاحتلال صاروخاً تحذيرياً. بقدر ما هو مؤلم الأمر، فيه تناقض مضحك. فالعدو يحذرك بصاروخ، وفي أكثر الأحيان القصف لا موعد له.
فأي كائن حي في غزة هو مشروع شهيد أو جريح. وأي منزل معرض للتدمير. أمّا المفارقة الهامة عند المقارنة بيننا وبينهم، أن صواريخهم المدمرة والموجهة لم تمنع إطلاق صواريخ المقاومة غير المتطورة، ولم تستطع القبة الحديدية منعها من العبور في سماء فلسطين والسقوط على أرضها. المسألة ليست فقط تكنولوجيا، لكن في بادئ القصة هي: قرار. حين تقرّر المقاومة قصف الأراضي المحتلة، ليس قراراً سهلاً. تداعيات ذلك لا تقتصر على عدد الشهداء والتدمير، إنما على الاستمرارية في القصف، ما يعني تواصل دوي صافرات الإنذار، أي أن حالة الطوارئ لم تُرفع مع خسائرها الاقتصادية والسياسية.
صحيح أن القطاع لا يملك مقومات العمق الاستراتيجي وطبيعته الجغرافية لا تصلح ساحة قتال، إلا أن صاروخاً واحداً كفيل بأن يجعل غزة كلها قادرة على إنهاك دولة بأكملها، وليس أي دولة. فالقرار فلسطينيٌّ، وهذا أهم إنجاز.