أطفال غسان كنفاني في رواياته يجوعون ويكدحون ويتعفّفون، يكبرون سريعاً ويصبحون رجالاً في العاشرة من أعمارهم. لا ينصاعون إلى الشكوى فيخفون أحزانهم وشقاءهم ويزمّون الشفاه ولا يشتكون. هذا ما رآه المعلّم في قصة «كعك على الرصيف» وهو يحاول فهم تلميذه حميد: «لقد بدأت مشكلة حميد تدخل شيئاً فشيئاً في ما بعد، إلى حياتي. كنت لا أستطيع على الإطلاق أن أكون عاجزاً في حياته، متفرجّاً إلى مأساته». ما كتبه كنفاني في القصص التخيّلية ليس منفصلاً عن الواقع، وهو ما كرره مراراً في مقابلاته الصحافية، فتلاميذه ينامون في الصف لأنهم يعملون في الليل ببيع الحلوى في دور السينما.صورة الطفل لدى كنفاني في رواياته «ورقة من الرملة»، و«أرض البرتقال الحزين»، و«البومة في غرفة بعيدة»، تشاركها مع زوجته آني هوفا، دنماركية الأصل التي عاشت حياتها في سبيل القضية. فبعد استشهاد غسان كنفاني، عملت على التعمق في تاريخ فلسطين والقضية وحققت جزءاً من مخططاتهما معاً؛ إنشاء مكانٍ آمنٍ لأطفال المخيمات. تقول آني إن أحاديث طويلة جمعتها به عن إنشاء مؤسسة أو مركز للأطفال اللاجئين. كَثر هذا الحديث قبل استشهاده بسنة واحدة. وقد كان يؤمن بأن «الكفاح طويل وأنه لن يعيش ليعود إلى وطنه، لكنه آمن بأن أطفال فلسطين سيحققون حلم العودة». من هنا انطلقت فكرة «مؤسسة غسان كنفاني الثقافية» التي أنشئت كجمعية لبنانية في الذكرى الثانية لاستشهاده عام 1974، والتي تهتم بالأطفال بشكل خاص.
بدأ التجهيز لإطلاق لجنة لجمع ونشر كتب غسان كنفاني الأدبية من روايات وقصص قصيرة ومسرحيات وأطروحات. كان لرفيق دربه الراحل فاروق غندور الأثر البالغ في تنظيم إنتاجات الشهيد والمحافظة عليها، بدأ سريعاً بجمع قصاصات الورق الصغيرة قبل المجلّدات لحفظها وأنشأ مع زوجة غسان وعدد من الأصدقاء مجموعة «التخليد» لحفظ إرثه ونشره. تحولت بعد سنتين تقريباً إلى «مؤسسة غسان كنفاني الثقافية». تفاصيل ترويها لـ«الأخبار» ابنته الفنانة ليلى كنفاني: «اختارت آني أن تكمل نهج غسان، فلم تملك موهبة الكتابة، ذهبت إلى حيث التقيا وخطّطا معاً، تعليم واحتضان الأطفال قبل المدرسة»، فـ«الأونروا» لا تستقبل أطفال الحضانة. بالإضافة إلى نشر أعمال غسان كنفاني، كان هدف المؤسسة هو العمل من أجل الأطفال، بدءاً بالأطفال بين ثلاث وست سنوات، وتستقبلهم في الروضات، ثم الأطفال الأكبر سناً الذين أنشأت لهم المكتبات وأندية القراءة والتمثيل والفنون. ذهبت المؤسسة بعيداً إلى الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة والمكفوفين خاصة، بدأت ببرامج دمجهم منذ عام 1995 رغم أنها كانت تفتقر إلى الخبرات والمهارات، إلا أنها كانت تستقبل الأطفال بكل احتياجاتهم. تقول ليلى، وهي عضو الهيئة الإدارية للمؤسسة: «أطفال غسان كنفاني اليوم اشتد عودهم، نالوا شهادات عليا ومنهم المكفوفون، ويتكافلون ويدعمون هذه المؤسسة». بعضهم عاد إليها أساتذة بعدما خرّجت المؤسسة أكثر من 10 آلاف طفل منذ انطلاقها.
خرّجت المؤسسة أكثر من 10 آلاف طفل منذ انطلاقها


لم تدعم مؤسسة غسان كنفاني المرأة من خلال توفير فرص عمل لها وحسب، بل كان هدف التركيز على الأطفال في عمر ما قبل المدرسة هو لإتاحة فرصة للنساء في مخيمات اللجوء الفلسطيني لإكمال تعليمهنّ أو عملهنّ بعد الإنجاب. هي مساحة آمنة للأم والطفل. امتدت في ستة مخيمات بدءاً من مخيم برج البراجنة في بيروت، لم تقتصر فقط على روضات الأطفال ومراكز التأهيل، بل بدأت المؤسسة تتوسع وتمّ إنشاء أول مكتبة عام 1996 في مخيم عين الحلوة، لتتوالى في مخيم نهر البارد والبداوي والرشيدية. هذه المكتبات تنشر بالدرجة الأولى قصص غسان كنفاني وكتاباته إلى جانب مروحة واسعة أمام الطلاب والباحثين. وبذلك تصل المؤسسة لتستهدف الأطفال، وصولاً إلى عمر الـ 18 عاماً من خلال الروضات والأندية والمكتبات.
أراد غسان كنفاني لأطفال فلسطين ألّا يستسلموا وألّا يتوقفوا عن المحاولة، أراد لهم ألّا يتخلّوا عن أحلامهم. كتب لهم قصة «القنديل الصغير» حتى يُدركوا أن الجدران التي نبنيها من حولنا والسجن الذي نضع أحلامنا وأفكارنا داخله لن يرينا الشمس مهما حاولنا. وهذا ما أرادته «مؤسسة غسان كنفاني الثقافية» لأطفال المخيمات بعد رحيله. بالإضافة إلى كونها تفتح أبوابها لجميع الأطفال، فـ«ترى لدينا العديد من الجنسيات، بعضهم سوداني، والآخر سوري وأيضاً يأتي إلينا الأطفال اللبنانيون وخاصة في منطقة بيروت»، تقول ليلى. لكن من المهم أن «يدرك الطفل الفلسطيني هويته الفلسطينية»، ومن أين أتى، «ندلّهم على الخريطة» ويردّدون أسماء المدن التي هجّروا منها. المؤسسة تعطي دروساً عملية لا تقتصر على الدروس النظرية التلقينية لتطوير مهارات الأطفال واكتشاف هويتهم.
مشوار المؤسسة مليء بالكفاح، فبعد 48 سنة من تأسيسها تجد صعوبة في التمويل. لا مشاريع إنتاجية أو تجارية تقوم عليها هذه المؤسسة، فقط تبرعات الأصدقاء والمحبين إلى جانب تلقّيها تمويلاً خارجياً من خلال إطلاق المؤتمرات والنشاطات. فتكلفة التسجيل رمزية جداً ولا تغطي 10% من المصاريف، وُضعت لتشعر الآباء والأمهات بنوع من «التعفف والكرامة» والمسؤولية، وبعض الأطفال يسجلون مجاناً. وبحسب ليلى، فإن «مبادئ المؤسسة صعّبت تأمين المال اللازم لتسيير المركز، فالتمويل يمر بمرحلة تصفية كبيرة، مع العلم بأننا لا نتعاطى في المجال السياسي للفصائل، ونرفض ذلك، لكن لا يمكن أن نكون بعيدين عن أفكار المقاومة والوطن والعودة التي هي أصل أهدافنا».
غذّى كنفاني الصغير في داخله، هو الذي خسر طفولته باكراً، لم يتخلّ عن الأطفال وحقهم، زرع لهم أشجار البرتقال والزيتون وزرع فيهم الطفل إلى الأبد. حثّهم على الخروج من غرفهم الضيقة وأرشدهم إلى الشمس. الطفل الفلسطيني لدى غسان هو الحكاية التي بدأت خارج الوطن، لكن نهايتها مع عائلاتهم على أرض واحدة في بيت واحد، وينسجون أحلامهم الصغيرة من دون خوف.