ليست جريمة واحدة وحسب، بل مجموعة من الجرائم يرتكبها الاحتلال باحتجازه جثامين الشهداء الفلسطينيين في الثلاجات ومقابر الأرقام. جرائم يرفضها القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، واتفاقيات جنيف الرابعة، وتتنافى مع الأحكام والأعراف الدولية. يمكن استعراض هذه الجرائم في السطور التالية، رغم أن كل جريمة منها تستحق البحث والدراسة على انفراد:
أوّلاً: التعذيب النفسي
هل يقترب التعذيب النفسي لعائلات الشهداء المحتجزة جثامينهم من التعذيب الشديد المجرّم دولياً والذي يعتبر من الجرائم الجسيمة التي يعاقب عليها الاحتلال باعتباره دولة مارقة لمخالفتها قواعد وأحكام واتفاقيات دولية بعضها هي طرف فيها؟ في الواقع، لم يجد الكاتب دراسات تجيب على هذا السؤال، لكن، واستناداً إلى التجربة الشخصية واللقاءات مع شخصيات ومؤسسات دولية في أوقات سابقة، يمكننا الاجتهاد بأن احتجاز الجثامين يشكّل أحد مظاهر التعذيب النفسي للفلسطينيين من عوائل الشهداء، ويتضح ذلك من خلال استعراض موجز للآثار النفسية للاحتجاز:
يهدف الاحتلال من ممارسة إجراء الاحتجاز إلى تعذيب الأهل والحطّ من كرامة الميت وكرامة أهله، وهو يدرك أهمية حصول الأهل على الجثمان ودفنه وفقاً للشرائع الدينية والعادات المتبعة، لذلك، فإنه يسعى إلى المماطلة في عملية التسليم بحيث يستغرق في بعض الأحيان سنوات طويلة تمضيها عائلة الشهيد في عذاب وانتظار ما يترك آثاراً نفسية لدى أفراد العائلة التي تبقى في حالة انتظار وقلق دائمين، ولا يكتمل عندها الموت إلا باستلام الجثمان ودفنه، وتخضع إلى ابتزاز الاحتلال الذي يُخضع الجثمان إلى المساومة والتفاوض وابتزاز العائلة في كل لحظة، من خلال وعود كاذبة وتهديدات بالدفن في مقابر الأرقام ووضع شروط قاسية للتسليم.
ولعل أقسى أشكال التعذيب هو إبقاء العائلة من دون يقين بواقعة الاستشهاد، إذ إنها لا تتلقى، كما تقتضي القوانين الدولية، أية معلومة أو وثيقة تثبت واقعة الاستشهاد. وثمّة عائلات احتجزت جثامين أبنائها لا تزال حتى اللحظة تعتقد أن ابنها مختطف وربما يكون على قيد الحياة. وأحياناً تقع العائلة ضحية الإشاعات التي يطلقها الاحتلال للإمعان في تعذيب الأهل.
وهذا التعذيب المباشر والمقصود لعائلة الشهيد يبدأ منذ اللحظة الأولى للاستشهاد، من خلال العقوبات الجماعية التي تفرض على العائلة، وأوّلها احتجاز الجثمان ضمن خطة استراتيجية ممنهجة للنيل من إرادة الفلسطيني وثنيه عن التفكير في المقاومة المشروعة لطرد الاحتلال.
في كثير من الأحيان لا يعلن صراحة وعلى نحو ناف للشك بأن الشخص قد قُتل أم احتُجز حياً فتبقى العائلة في حالة لا يقين


وربما لا تظهر آثار التعذيب جسدياً، لكن آثاره النفسية كبيرة وتنعكس على حياة العائلة اليومية وعلى حياتها الأسرية وعملها وعلاقاتها الاجتماعية، ما يجعلها في حالة اضطراب دائم؛ لعل أبلغ وصف لهذه الحالة ما قاله والد شهيد: «حالة من القلق والانتظار تنتابنا على مدار الأربع والعشرين ساعة يومياً، نتساءل فيها عن مصير أبنائنا الشهداء. أسئلة كثيرة تجتاحني، هل سأقبِّل رأس نجلي؟ وهل سأُلبسه كفنه الذي عبّقته بالعطر الفاخر الذي يليق بمنزلته؟ تُرى هل ستزفّه الجماهير إلى مرقده الأخير الذي فُتح منذ نبأ استشهاده وما زال منتظراً أن يحتضنه؟».
وتتجلى حالة القلق واللايقين هذه بأن العائلة لا تعرف مصير ابنها ولا تقف على ظروف استشهاده واحتجازه، ولا تملك أية معلومات عنه ولا تعرف سقفاً زمنياً لاستلام ابنها، وهي تخضع للابتزاز والمساومات الحاطة بالكرامة، ويتم حرمانها من حقها الإنساني والديني بدفن ابنها في المكان الذي تريد وأن تشيّعه وفقاً لتعاليم دينها. وتحرم العائلة أيضاً من ممارسة حقها في تشريح الجثمان للوقوف على أسباب الوفاة وممارسة حقها في رفع شكوى أو إعداد ملف للقضية، أو حتى الحصول على شهادة وفاة وإصدار حجة حصر إرث مثلاً، حيث أن هذه الوثائق المهمة للعائلة، والتي تعتبر من حقوقها الأساسية، لا تصدر إلا بعد الدفن. كل هذا يشكّل مساراً لرحلة عذاب طويلة تضطر عائلة الشهيد خلالها إلى اللجوء إلى القضاء وإجراء اللقاءات الطويلة والمضنية مع أطراف ذوي شأن، ويضطر أحياناً إلى التفرغ لقضية جثمان ابنه، الأمر الذي ينعكس سلباً وبشكل ملحوظ على عمله ومصدر رزقه وعلاقاته الاجتماعية والأسرية. وبالنسبة للعائلة، فإن دائرة الموت لا تغلق وتنتهي إلا بدفن الجثمان ويصبح الدفن أوّل وأكبر الأمنيات وأشدها صعوبة.
ورحلة العذاب هذه لا تبدأ وتنتهي بالفقد والثكل بل تستمر لوقت طويل وقد لا تنتهي ولا تتقادم وهي تمس أكثر من حق أساسي كفلته القوانين الدولية والمحلية:
1- حق الحصول على معلومات دقيقة شخصية وطبية عن الميت
2- حق الدفن بكرامة في المكان الذي تريده العائلة
3- حق ممارسة الشعائر الدينية عند الدفن
4- حق كرامة الإنسان ميتاً أو حياً
5- حق التشريح ومعرفة أسباب الوفاة
6- حق التحقيق في ظروف الحادث ورفع شكوى
وانتهاك هذه الحقوق من قبل الاحتلال يأتي بطريقة ممنهجة وتحت مظلة الكنيست التي تشرّع القانون تلو القانون لتسويغ هذه الانتهاكات، وكذلك بتأييد مباشر من محكمة العدل العليا التي أجازت في قرارات غير مسبوقة قيام دولة الاحتلال باحتجاز جثامين الشهداء، وهذا يعني أنه ليس من وسيلة محلية أمام العائلات لوقف هذا التعذيب، الأمر الذي يزيد ويعمق الآثار النفسية للعائلة ويشعرها بالعجز أمام الشهيد الذي لا تستطيع إنقاذه من برد الثلاجات ولا تستطيع القيام بواجبها تجاه الجثمان ودفنه.
واعتقال الجثمان لا يقل ألماً عن اعتقال الأحياء، فهو في الأسر وإن كان ميتاً لا يحس ولا يشعر بالألم ولا يهمه الصقيع، ولكن الألم والعذاب يطال ذويه الذين يتم اعتقال ابنهم ميتاً وتجميده في الثلاجة يأكل أطرافه الصقيع أو في مقابر الأرقام تفترس جثمانه الوحوش وتجرفه الأمطار والسيول. وهذا الألم الدائم يرقى إلى مستوى التعذيب الجسيم المجرّم دولياً.
وممّا يزيد من التعذيب النفسي الواقع على العائلة، فضلاً عن حقيقة الاحتجاز، هو إبلاغ العائلة بقرار تسليم الجثمان وإلغاء القرار في اللحظات الأخيرة، وفي حالات معيّنة تم تسليم جثامين تبيّن للعائلة أنها لشهداء آخرين، ما يؤدي إلى أن تدخل العائلة في حالة من الإرباك والاضطراب النفسي الشديد.

ثانياً: القتل العمد
وهذه الجريمة الأشد وضوحاً، وتسبق احتجاز الجثمان، وقد كثف الاحتلال من ارتكابها في انتفاضة القدس (تشرين الأول 2015)، حيث كانت أصابع جيشه خفيفة على الزناد وأُطلقت النيران على الفلسطينيين لمجرد الاشتباه بنيتهم تنفيذ عملية محتملة، وفي بعض الأحيان كان يطلق النار على الفلسطيني من مسافة صفر على سبيل التأكد من الموت، إضافة إلى منع سيارات الإسعاف الفلسطينية من الوصول إلى الفلسطيني المصاب إلى أن يفارق الحياة نتيجة النزف المستمر. وشملت الإعدامات الميدانية الأطفال والنساء والشيوخ أيضاً، وكان أفراد الجيش أو الشرطة يطلقون النار على الفلسطيني رغم إمكانية تحييده واعتقاله حتى دون مقاومة، وخاصة الأطفال الذين يشتبه بهم بمحاولة الطعن بسكين مطبخ أو مقص لا يشكل خطراً حالاً على قوات الأمن أو السلامة العامة.
تعتبر عمليات الإعدام الميداني المباشر للفلسطينيين مخالفة للقانون الدولي، والدولي الإنساني، وتعتبر من جرائم الحرب، وكانت لجنة حقوق الإنسان التابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي لمنظمة الأمم المتحدة في دورتها الـ 59 المنعقدة من 17 آذار إلى 24 نيسان 2003 قد أدانت ممارسة التصفيات أو الإعدام خارج نطاق القضاء التي ينفذها الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وبحسب المادة الثالثة من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 يحظر «الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، القتل بجميع أشكاله، التشويه والمعاملة القاسية والتعذيب وإصدار الأحكام، وتنفيذ العقوبات دون إجراء محاكمة أمام محكمة، وتكفل جميع الضمانات اللازمة في نظر الشعوب المتمدنة لهؤلاء الأشخاص المحميين حتى في ظل صدور حكم بالإعدام عن محكمة مشكّلة بشكل قانوني (....)».
ومن الشائع أن تحتجز قوات الاحتلال جثمان الشهيد بعد إعدامه وتحتفظ به في الثلاجة أو مقابر الأرقام، في شروط احتجاز سيئة، إمعاناً في تعذيب الأهل وفي محاولة منها لإخفاء جريمة الإعدام الميداني، حيث، كما قلنا سابقاً، تنشغل العائلة بقضية استعادة الجثمان التي قد تطول، ولا تأخذ قضية الإعدام المساحة الكافية من المتابعة والاهتمام.
ويذكر أن الشرطة العسكرية أغلقت الكثير من ملفات الشكاوى التي تقدمت بها مؤسسات حقوقية، أو فلسطينيون فرادى، للتحقيق في ظروف الإعدام، وادعت دائماً أن الجيش أو الشرطة قد قاموا بالعمل وفقاً للقانون ومن أجل السلامة العامة، ويأتي هذا الرد فوراً ودون حتى التحقيق في ملابسات وظروف الحدث.


ثالثاً: العقوبات الجماعية
وتشمل اعتقال العائلة أو أحد أفرادها واحتجازهم لمدد مختلفة قد تطول وتقصر، بما ينطوي عليه الاعتقال من حجز وتقييد للحرية دون تهمة أو ارتكاب فعل مخالف، وتلجأ سلطات الاحتلال في هذه الحالة إلى الاعتقال الإداري الذي يتجدد أكثر من مرة. وهذا الاعتقال يسبب الألم والاضطرابات النفسية لعائلة الشهيد المحتجز في الثلاجة، والتي لا تجد من يساندها في حالة غياب الأب في المعتقل. إضافة إلى هدم البيت استناداً إلى سند قانوني بائد وهو قانون الطوارئ البريطاني، الذي أبطل الاحتلال معظم بنوده وأحكامه وأبقى فقط تلك المواد والأحكام التي تساعده في قمع الفلسطينيين، إضافة إلى سحب الإقامات في مدينة القدس والحرمان من تصاريح الدخول إلى فلسطين المحتلة في عام 1948 ومنع السفر لذوي الشهداء. وهذه العقوبات تتنافى مع القواعد العامة للقانون والتي تؤكد على «شخصية العقوبة»، أي إن العقوبة تقع على من ارتكب الفعل ولا تطال عائلته وزوجته وأولاده، غير أن الاحتلال الذي «عاقب» الشهيد بإعدامه دون محاكمة يستمر في هذه العقوبة لتطال الوالدين والزوجة والأبناء والأخوة والعائلة الممتدة والحي وحتى القرية أو المدينة.

رابعاً: الحطّ من كرامة الميت
يتعرض الجثمان في الاحتجاز إلى تشوّهات في الجسم، وخاصة منطقة الوجه، وإلى معاملة حاطة من كرامة الميت، حيث يوضع في ثلاجات ضيقة شديدة الانخفاض تصل إلى 30-40 درجة تحت الصفر، ويلقى بإهمال مع عدد آخر من الجثامين بملابسه وحذائه بعد وضعه في كيس نايلون أسود سميك ليتجمّد تماماً ويصبح كتلة من الجليد. وإذا دُفن في مقابر الأرقام، فإنه يُدفن من دون تكفين أو غسل ويوضع في القبر في كيس نايلون دون إقامة طقوس الدفن، والقصد من ذلك إهانة الجثمان والانتقام من الميت. وفي بعض الحالات، التي لم يتم التحقّق منها، ثمة شكوك قوية في سرقة أعضاء من الجثمان مثل القرنية وصمّامات القلب والخلايا الجلدية. إن العبث بالجثمان واحتجازه لفترة طويلة وتشويه جسمه ووجهه، وأحياناً ضياع رفاته وتركه عرضة للوحوش المفترسة يعتبر مسّاً خطيراً ومرفوضاً بكرامة الميت، ويسبب ألماً وعذاباً شديدين لعائلة الشهيد التي تعتقد أن ابنها ما زال جميلاً بهياً، فتجد أنه قد اختلف وتشوّه إلى حدّ لا يمكن التعرّف إليه إلا من العلامات الفارقة.

خامساً: الاختفاء القسري
وهي جريمة دولية معروفة، حسب الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري. ويعرف الاختفاء القسري بأنّه: «الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، ما يحرمه من حماية القانون» (الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري).
إن هذا التعريف يقترب من قيام الاحتلال باختطاف الجثامين وإخفائها عن عائلاتها، وإن الاحتلال، في كثير من الأحيان، لا يعلن صراحة، وعلى نحو ناف للشك، بأن الشخص قد قُتل أم احتجز حياً، فتبقى العائلة في حالة لا يقين ويزداد عندها الأمل بأن ابنها لم يستشهد وربما هو الآن حياً رهن الاعتقال. وفي الآونة الأخيرة اختطف الاحتلال من غزة مواطنين من وراء السياج الحاجز، وكانت المعلومات قد رشحت عن إصابة هؤلاء المواطنين، ولم يعلن الاحتلال عن استشهادهم، ولم يتم إبلاغ وزارة الصحة الفلسطينية أو مؤسسة الصليب الأحمر الدولي عن مصير هؤلاء. وثمة عائلات في القدس والضفة الغربية ما زالت تصرح أمام الإعلام أنها تشك في استشهاد ابنها وتتهم الاحتلال باختطافه حياً، وذلك لعدم توفر أية معلومة تؤكد وفاته، ويحرم الاحتلال هذه العائلات من المعلومات الدقيقة بهدف الإمعان في تعذيب الأهل ووضعهم في حالة اضطراب نفسي وحالة لا يقين بشأن مصير الابن.
وضمن هذه السياسة رفضت سلطات الاحتلال طلبات عديدة لمكتب الصليب الأحمر الدولي بالحصول على معلومات حول الجثامين المختطفة والمحتجزة في الثلاجات أو مقابر الأرقام، كما رفض الاحتلال زيارة بعثة دولية متخصّصة لتشخيص الجثامين، ورفضت تزويد هذه المؤسسات بأية معلومة عن الشهداء ما دفع بعدد من عائلات الشهداء للادعاء إعلامياً أن أبناءها مختطفون أحياء وليسوا شهداء ما لم يثبت العكس.
ربما لا يتّسع المقام هنا للإطالة في الحديث عن هذه الجرائم التي يمارسها الاحتلال يومياً ضد الفلسطينيين ولكنها قد تشكل، رغم إيجازها، حافزاً للباحث والدارس والقانوني العربي لأن يساهم، من خلال الكشف عن هذه الجرائم، في المعركة التي يخوضها الشعب الفلسطيني ضد جريمة الاحتجاز وما يرافقها من جرائم ضد الإنسانية.

* محامٍ - القدس المحتلة