كأنّ الاعتقال طوال العمر، لا يُشبع شَرهَ إسرائيل إلى الانتقام من الأسرى، حتى تحتجز رفاتهم بعد استشهادهم في سجونها. أقدم الشهداء الأسرى هو أنيس دولة من قلقيلية، والذي استُشهد عام 1980 في سجن عسقلان، ولا يزال جثمانه محتجَزاً إلى جانب تسعة آخرين في ما يُعرف بـ«مقابر الأرقام». وتُشير هذه التسمية إلى مجموعة من المقابر السرّية، التي يحتجز فيها الاحتلال جثامين الشهداء، لا سيّما من منفّذي العمليات الفدائية، إلى حين تسليمهم في صفقات تبادل أو غيرها، ويَعتبرها العدو مناطق عسكرية مغلقة، يَمنع الوصول إليها من دون موافقة مسبقة من جهاز المخابرات «الشاباك». وسُمّيت بهذا الاسم بالنظر إلى أن سلطات الاحتلال تضع أمام كلّ قبر لافتة صغيرة تحمل رقماً يرمز إلى الشهيد، من دون كتابة اسمه. الأسير الشهيد سعدي الغرابلي من قطاع غزة، احتُجز جثمانه بعد استشهاده في معزله الانفرادي الذي قضى فيه قرابة 12 عاماً. وكان الغرابلي (75 عاماً) قد قضى نحبه صيف عام 2020، نتيجة لسياسة الإهمال الطبي المتعمّد التي تنتهجها مصلحة إدارة السجون الإسرائيلية بحقّ الأسرى المرضى. محمود، وهو أحد أبناء الشهيد الغرابلي التسعة، يؤكد أنه وحتى خلال سنوات اعتقال والده منذ عام 1994، «فقد حُرم أولاده وأحفاده من زيارته، وتسبّب ذلك في زيادة أعباء الأَسر عليه، ليُصاب بعدّة أمراض، على رغم أنه دخل السجن قويّ البنية، وسليماً من الأمراض المزمنة». واليوم، تطالب عائلته بإطلاق سراح جثمانه. يقول عصام الغرابلي: «من حقّنا أن نُلقي عليه نظرة الوداع الأخيرة، من حقّنا أن نشيّعه ونكرم مثواه بطريقة تليق به، من حقنا أن نعرف مكان قبره، نزوره ونستأنس به ويستأنس بنا». والجدير ذكره، هنا، أن إسرائيل تحتجز جثامين كلّ من الشهداء: فارس بارود من غزة، نصار طقاطقة من بيت لحم، بسام السايح من نابلس، كمال أبو وعر من جنين، وأخيراً جثمان الشهيد داوود الزبيدي، عقب اغتياله في مخيم جنين. وبحسب إحصائيات رسمية، فإن الاحتلال يحتجز جثامين 350 شهيداً في ثلّاجات تجميد الموتى و«مقابر الأرقام»، وسط خشية عائلاتهم من سرقة أعضائهم للإتجار بها.
سعدي الغرابلي احتُجز جثمانه بعد استشهاده في معزله الانفرادي الذي قضى فيه قرابة 12 عاماً


ولأجل تحريك هذا الملفّ، أطلقت الحركة الأسيرة، بالتنسيق مع كافة مؤسّسات وهيئات الدفاع عن الأسرى في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة، حملة «بدنا ولادنا» للمطالبة بالإفراج عن جثامين الشهداء، لا سيّما الأسرى منهم، والذين حُرمت عائلاتهم من العيش معهم خلال سنوات الأسر الطويلة، وحُرمت أيضاً من اللقاء بأجسادهم موتى، وإلقاء نظرة الوداع عليهم. وانطلقت فعاليات الحملة في مؤتمر صحافي عُقد الأسبوع الماضي، من أمام بيت الأسير الشهيد سعدي الغرابلي في حيّ الشجاعية شرق مدينة غزة، وهي تشمل جملة من الفعاليات الشعبية والإعلامية والإلكترونية. وفي كلمة له خلال المؤتمر، قال القيادي في «حركة الجهاد الإسلامي»، خالد البطش: «نلتقي لنعلي صوتنا حول جريمة مستمرّة منذ عشرات السنين، جريمة لا يمارسها في العالم إلّا العدو الصهيوني ولا تمارَس إلّا داخل الكيان الذي صنعه المجتمع الدولي». وتابع البطش: «الأسرى الشهداء في مقابر الأرقام سيتمّ إطلاق سراحهم رغم أنف العدو، ولنا تجربتنا في فصائل المقاومة في صفقات التبادل، وآخرها وفاء الأحرار».
من ناحية حقوقية، يؤكد عصام مزهر، وهو مدير مؤسّسة الشهداء والأسرى «مهجة القدس»، أن احتجاز الجثامين هو «جريمة حقوقية وإنسانية، يتفرّد الاحتلال الإسرائيلي بارتكابها». ووفقاً لـ«مركز القدس لحقوق الإنسان»، فإنه وعلى الرغم من اعتراف المحكمة العليا الإسرائيلية، لأوّل مرّة، بعدم قانونيّة احتجاز الجثامين وفقاً للوائح الطوارئ التي سُنّت إبّان الانتداب البريطاني، فقد منحت الحكومة مهلة ستّة أشهر لسنّ قانون يسمح لها باحتجاز الجثامين. ويرى الأسير المحرَّر، مصطفى مسلماني، من جهته، أن «إسرائيل تريد من هذا السلوك الإجرامي معاقبة ذوي الأسرى، الذين ينتظرون أبناءهم للخروج من الأسر سنوات طويلة، وهي تستمرّ في ارتكاب جريمتها حتى بعد استشهاد الأسرى». ويقول: «هي وسيلة إسرائيلية عقابية على الفعل المقاوم الذي لا شكّ يزعج الاحتلال، وهي أيضاً وسيلة ابتزاز تسعى إسرائيل للحصول من خلالها على أثمان سياسية وعسكرية، في صفقات تبادل مثلاً، أو في محاولات إظهار حسن النيّة، والتي تترافق مع وجود مبادرات سياسية معيّنة».