«كان عليّ أن أزيح عظام أبي لأفسح المجال أمام جثة عمي، كانت العظام قد اختفت وكأنّ العالم قد ابتلعه» بهذه الكلمات عبّر محمود معطي من مخيّم برج البراجنة عن مشكلة عدم وجود مساحة لقبور جديدة و«نبش» القديمة لزيادة قدرتها على استيعاب المزيد. يؤكد معطي أن المقابر في المخيّمات الفلسطينية امتلأت، إذ يضطر اللاجئون في لبنان، منذ سنوات، لنبش قبور آبائهم وأجدادهم. أصبح من المألوف فيها حمل شاهد القبر الواحد أكثر من اسم كحل لإيواء الموتى الجدد بسبب اكتظاظ المقابر وتردّي الأوضاع الاقتصادية، ما لا يسمح بشراء قبور خارج المخيم.في مخيم برج البراجنة، عند موتك وقبل البكاء على فراقك، سيكون البكاء على تأمين مكان لإيواء جثتك! وبعد برودة الجثة سيصار إلى دفنها في أحد قبور الأقارب، أو سيشتري أقاربك، إن استطاعوا، قبراً فاخراً في سبلين. ومنذ بضعة أسابيع تم استحداث 50 قبراً بجانب سور المقبرة، وبحسب عضو لجنة المقبرة، أسعد محمود، فإن «هذه القبور هي مخصّصة لحالات استثنائية في حال كان المتوفَّى قد تُوفي أحد أقاربه في فترة زمنية قصيرة ما يعني عدم إمكانية فتح قبره، إذ تحدد الفترة بين الجثة والثانية بسنة ونصف سنة كحد أدنى»، ما يعطي أملاً لأهالي المخيم هو وجود مقبرة وهبها النائب وليد جنبلاط في سبلين مخصّصة لدفن اللاجئين الفلسطينيين من لبنان وسوريا، لكن بحسب محمود يجد أهالي المخيّم صعوبة في الدفن في هذه المقبرة لبعدها الجغرافي والتكلفة العالية لعملية الدفن التي تصل إلى 600 دولار للقبر. وهي المكان الوحيد المتاح، إذ أكدت المتحدثة باسم وكالة الأمم المتحدة للغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، هدى سمرا، لـ«الأخبار»، أن مساحة المقبرة تبلغ عشرة آلاف متر مربع وهي لا تزال تسع للموتى.
لكن تكلفة القبر في المخيم ليست أقل سوءاً. حفّار القبور حمزة حبيب يشرح لـ«الأخبار» عملية الدفن «المشترك»؛ إذ تزاح العظام وتوضع في أكياس بجانب الجثة الجديدة، و«رغم مجانية القبر فإن تكاليف الحفر ومستلزمات القبر قد تصل إلى 8 ملايين ليرة لبنانية وفي بعض الأحيان إلى 20 مليوناً في حال قرر أهل الفقيد وضع بلاطة كاملة للقبر». وقد رفعت اللجان الشعبية الصوت عالياً مطالبة بأرض جديدة قريبة من المخيم.
في عملية الدفن «المشترك» تزاح العظام وتوضع في أكياس بجانب الجثة الجديدة


المشكلة لا تنحصر في مخيم برج البراجنة، إذ تكدّست مدافن اللاجئين في لبنان تماماً كما المخيّمات، وأصبح إيجاد مدفن معاناة تزاد إلى ألم فقدان الأحبة. ففي مخيم شاتيلا، تمدّدت قبور الموتى على الرصيف إلى جانب مقبرة الشهداء التي يبلغ عمرها ما يقارب الـ50 عاماً. لا مكان فيها لدفن «المدنيين»، فقط جزء صغير مخصّص للمناضلين وقادة الفصائل وذوي المكانة الاجتماعية في المخيّم. أمّا اللاجئ «العادي» فلا يمكن سوى فتح قبر قديم لأحد أقربائه، إذ بلغ عدد الموتى في القبر الواحد الـ6، أو التوجّه نحو مقبرة «المقاصد» في الغبيري مقابل مبلغ 6 آلاف دولار للقبر بحسب عضو اللجنة الشعبية في المخيم ناجي دوالي. تبقى أيضاً مقبرة سبلين هي الحل الأخير بعد أن استنزفت جميع الأماكن أيضاً في مقبرة الداخلية في المخيّم إلى جانب مسجد شاتيلا، حيث تم دفن بعض الموتى في منزل قرب المقبرة لضيق المساحة. ولا تقف المشكلة عند شحّ القبور بل أيضاً، بحسب دوالي، تعاني مقبرة الشهداء من انعدام المياه رغم وجود عائلة بكاملها تسكن في داخلها وتتولى المهمات اللوجيستية بالإضافة إلى تهديم الحمامات وعدم بناء بديل منها.
المقابر، تلك البقعة التي كانت وستظل لها رهبة في كل قلب، مع مشهد القبور المتراصّة واحداً تلو الآخر، أمّا في المخيم، فلا تخيف اللاجئ فقط رهبة الموت، بل يطارده شبح تأمين القبر قبل الممات ليُحشر في مساحة كان يعلم أنها ضيقة لكن ليس إلى هذا الحد!