يمضي محمد يومه أمام بسطة الليمون، يراقب أزقّة مخيّم برج البراجنة. يعود إلى حجرته في المساء ليقضي ساعات في تصفّح مواقع الوظائف، ويرسل سيرته الذاتية الحافلة بالتدريبات في أهمّ مكاتب لبنان، لكن إلى الآن، لا رسالة على بريده الإلكتروني تشعره بالقبول. حامل شهادة الهندسة الداخلية لم يجد عملاً يناسبه في تخصّصه، فعمل بائعاً، وفي تمديدات «الصحّية» في الأبنية، وهي المهنة التي ورثها عن والده. «لا تتعلّم... أنت في لبنان»، يقول محمد لـ«الأخبار»، فيما يعتقد عبد العزيز سلامة «أنني رميْت مالي من دون جدوى في إكمال تخصّص الهندسة في جامعة خاصة، وبعد كلّ الجهد في الدراسة، لم أتمكّن من العمل في مهنتي رغم مؤهّلاتي الأكاديمية العالية». هكذا، يمارَس الإقصاء ضدّ جيل كامل، بدلاً من احتوائه في مهن توفّر له أقلّ متطلّبات العيش. فلوِ التحق كلّ المتعلّمين في المخيم بمهن منظّمة، لتَغيّر الوضع من الناحيتَين الأمنية والاجتماعية؛ فالعلاقة تبادلية. لكن، بعد أن كان سلاح اللاجئ في لبنان هو تفوّقه الأكاديمي، تراجَع تمجيد التعليم، وبات الحديث عنه بسخرية إلّا في الاختصاصات التي تؤهّلك للعمل مع «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين» (أونروا). الذريعة «الظاهرية» لرافضي عمل الفلسطينيين في أكثر من 70 مهنة يحدّدها القانون اللبناني، هي الخشية من منافسة العامل اللبناني، إضافة إلى هواجس التوطين، واختلال الموازين الطائفية في البلاد، فضلاً عن أن الرواتب المُخصَّصة للعمالة الأجنبية غالباً ما تُحوَّل إلى الخارج، على عكس رواتب المواطنين وأجورهم والتقديمات الاجتماعية الممنوحة لهم.
لكنّ رئيس «اتحاد الأطباء الفلسطينيين في لبنان»، الدكتور عماد الحلّاق، يلفت إلى أنه «في مجال الطب، لبنان لديه حاجة كبيرة إلى الأطباء، بسبب الهجرة التي تلت انفجار بيروت في 4 آب والأزمة الاقتصادية». وبحسب الحلّاق، فإن «عدد الأطباء الفلسطينيين يتناقص بسبب هجرتهم ووفاة كبار السنّ منهم، إذ أصبح عددهم مع الصيادلة ما يقارب الـ340 فلسطينياً، ما يجعل سهلاً على الدولة اللبنانية ضمّهم إلى القطاع الصحي اللبناني». ويلفت رئيس الاتحاد إلى أن «الطبيب الفلسطيني في السابق، أي قبل الأزمة في لبنان، كانت معاينته أقلّ من نصف معاينة الطبيب اللبناني، وعند حلول الأزمة تَأثّر المخيم مباشرة بها، وأصبحت المعاينة لا تتخطّى الـ10% مقارنة بالمعاينة الخارجية». مع ذلك، لا يبدو أن ثمّة جدوى من تواصل النقابات الفلسطينية مع نظيرتها اللبنانية، التي تؤكد هي الأخرى حاجة البلد إلى كوادر في عدد من المهن، على رأسها القطاع الطبّي والهندسة؛ فالمشاورات واللقاءات «عقيمة» بحسب الحلّاق.
لا يجد الفلسطيني نفسه قادراً على العيش وهو ينتظر مزاولة «مهنة الأحلام»


وعلى العكس من ذلك، يبدي رئيس «لجنة الحوار الفلسطيني اللبناني»، الدكتور باسل الحسن، تفاؤلاً، متحدّثاً عن «استراتيجية متكاملة أنجزتها اللجنة، وستُطرح قريباً على المعنيّين في الجانب اللبناني، لكنها تنتظر الظروف المناسبة»، أخذاً في الاعتبار الاستحقاق الانتخابي وما يحمله من تجاذبات وتوتّر. ويَعتبر الحسن أن «الملفّ مرهون بالتوافق اللبناني - اللبناني»، وأن «لا جدوى من طرحه في هذه الفترة». وعلى رغم تضمّن الخطّة حقائق حول حاجة لبنان إلى القوى العاملة الفلسطينية، إلّا أن «الرافض لا يهتمّ بالأرقام»، بحسب الحسن. على أن «الإيجابية» التي يحملها رئيس اللجنة تصطدم باعتراض قوى سياسية مختلفة على كلّ شيء، إنّما متّفقة على «عداوة الفلسطيني»، على قرار وزير العمل استثناء اللاجئين الفلسطينيين من قرارات منع العمل المطبّقة عليهم سابقاً.
وفي انتظار أيّ تبدّل في المشهد، لا يجد الفلسطيني نفسه قادراً على العيش وهو ينتظر مزاولة «مهنة الأحلام»، ولذا فقد لجأ إلى مهن مغايرة لاختصاصه كالتجارة أو العمل في التنظيف أو السنكرية... وفي أحسن الأحوال، انضمّ إلى واحدة من الـ«NGOS» العاملة في المخيم. من بين هؤلاء، سهام، وهي واحدة من حاملي الشهادات العليا في إدارة الأعمال والهندسة الزراعية، لكنها تطوّعت مع «النادي الفلسطيني لتدريس الأطفال»، حالها كحال الكثير من المهندسين في المخيّم. وبحسب آخر إحصائية صادرة عن «اتّحاد المهندسين الفلسطينيين في لبنان»، فإن نسبة المهندسين الذين يُمارسون مهناً أخرى غير الهندسة، قُدّرت بحوالى 30% من العاملين، بالإضافة إلى 20% عاطلين عن العمل، أي أن قرابة نصف المهندسين، وعددهم يقارب 500، لا يعملون في مجالهم، ولا سيما في التخصّصات التي تجد سوقاً مثل الهندسة الميكانيكية والكيميائية، وهندسة الآلات الزراعية والطبّية.