ليس ثمة إمكانية للتوصل إلى حلول وسط، وخاصة أن التيار الديني يتغلغل في مؤسسات الدولة
لا تفصل الصهيونية بين الانتماء الديني والانتماء القومي، ولذا فهي ليست حركة علمانية بالمعنى الدقيق للكلمة، بقدر ما تستمدّ مفاهيم الأمة والشعب والانتماء من الدائرة الدينية وتقوم بعلمنتها. كما أنها ليست حركة دينية تماماً، وإنما خلطة حقيقية، ولا يقدح في ذلك أن مؤسِّسيها علمانيون؛ فهي وإن تصادمت مع الدين في بعض المفاصل، إلا أنها سرعان ما توظِّفه وتتكامل معه. من هنا، نبع بعض المقولات التي تنظر إلى الصهيونية على أنها محاولة لإعادة تفسير الدين اليهودي بما يتلاءم مع مستجدّات العصر، وإن على حساب بعض الثوابت الأساسية، لكونها أضفت على المفاهيم الدينية صبغة قومية وحداثوية مثل «شعب الله المختار» و«أرض الميعاد»، وحوّلتها إلى أفكار قومية. في المقابل، يرى بعض آخر أن الصهيونية هي امتداد للدينامية الأوروبية التي أنتجت هذا النوع من الأفكار، ولكنها تطورت وتحولت إلى مشروع سياسي تم تنفيذه في بلادنا بدعم من الاستعمار. ومنذ اللحظات الأولى، تبنّى مؤسِّسوها خيار أن يكونوا أداة تنفيذ تلك المخططات الاستعمارية، انطلاقاً من حقيقة أنه لا أفق لمشروعهم إلّا في لعب هذا الدور الوظيفي. ومن هنا، كانت لقاءات تيودور هرتزل مع عدد من المسؤولين الغربيين، ليعرض عليهم احتضان المشروع الصهيوني مقابل لعب الدور المذكور. ويوثّق نتنياهو إحدى تلك المحطات في كتابه «مكان بين الأمم» بالقول إن سر شخصية هرتزل يكمن في كونه «أول يهودي يكتشف فنّ السياسة، واستغلال المصالح المشتركة على الصعيد السياسي. فقد وصف هرتزل أمام القيصر الألماني الحركة الصهيونية بأنها عبارة عن مشروع سيجتذب قسماً من المتطرفين الشباب في ألمانيا، ويفتح الطريق أمام القيصر إلى الهند، طالباً الرعاية الألمانية للحركة الصهيونية...».
انطلاقاً ممّا تقدم، يمكن القول إن التطرف السياسي، وتحديداً في ما يتعلق بالساحة الفلسطينية، لا علاقة له بالضرورة بالانتماء الأيديولوجي الديني أو العلماني. فقد تجد متدينين وعلمانيين يتبنّون نهجاً سياسياً واحداً في مقابل علمانيين آخرين (في العقود الأولى من عمر الكيان، كان المعسكر الديني أقرب إلى بن غوريون منه إلى معسكر اليمين في السياسة الخارجية). مع ذلك، فإن الصراع بين الطرفين هو صراع حقيقي ومتجذر، وليس خداعاً أو تمثيلاً كما قد يتبادر إلى أذهان البعض، حتى لو كان تحت سقف الإجماع الواسع. في السابق، كان الدور المتعاظم للأحزاب «الحريدية» ينبع من كونها طرفاً مرجّحاً في الانقسام بين اليمين واليسار، وهو مسار تبلور منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي. لكن بعد أفول معسكر اليسار عملياً، وجنوح المجتمع الإسرائيلي إلى اليمينية لأسباب عديدة، على رأسها التركيبة الديمغرافية، تعاظم دور المعسكر الديني نتيجة تزايد نسبة «الحريديم» العددية، وتجاوزها ما هو قائم داخل الوسط العلماني (عائلة «الحريدي» تتكون كمعدل وسطي من ثمانية أفراد، مقابل أربعة لأسرة العلماني). انعكست هذه التغيرات الديمغرافية على المشهد السياسي في إسرائيل. ففي الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، كان التيار اليساري هو المهيمن، ثم تحولت الهيمنة إلى يمين الوسط، أما الآن فبات اليمين أقرب إلى اليمين المتطرف، وهو ما يتجلى في تركيبة حكومات نتنياهو. هذا المسار من التحولات يؤكد أن التصادم بين المعسكرين العلماني والديني، بغض النظر عن شخص نتنياهو أو غيره، إلى تصاعد، وأن ليس ثمة إمكانية للتوصل إلى حلول وسط، وخاصة أن التيار الديني يتغلغل في مؤسسات الدولة، بما فيها الجيش، الذي تؤكد العديد من الدراسات أن نسبة المتدينين (الصهاينة) فيه ارتفعت بشكل ملحوظ.