ولربما يمكن القول إن «الصبر الاستراتيجي» الإيراني خلال عام أدى إلى نزع أوراق الضغط من الأوروبيين؛ إذ إن انصياع الأوروبيين للأميركيين في فرض العقوبات الاقتصادية على إيران خلال العام الماضي أدى إلى سلب ورقة التهديد هذه من يدهم، من جهة، ومن جهة أخرى التصعيد الذي شهده الشهر الماضي بين إيران والولايات المتحدة، وتراجع الأميركيين عن تهديداتهم العسكرية، أديا إلى سلب ورقة التهديد بالخيار العسكري من الأميركيين والأوروبيين أيضاً. ولربما يمكن القول إنه لم تعد هناك أي عقوبات تستطيع الولايات المتحدة أن تفرضها على إيران ولم تقم بفرضها. وعليه، فإن العقوبات الأميركية لم تؤدّ إلى تحريك الشارع الإيراني أو تركيع النظام الإيراني كما كان متوقعاً.
وبعدما استطاعت إيران العبور فوق جميع هذه الهواجس، نرى أنها بدأت تلعب لعبتها هي، مثل الملاكم الذي يتصدى للكمات الخصم خلال الجولات الأولى من مباراة الملاكمة، ثم يبدأ ــــ بعد أن يكون قد اطمأن إلى أن خصمه تعب فجأة ــــ باللكم يميناً وشمالاً في جولات وسط اللعبة. بدأت اللعبة مع خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وفرضها العقوبات على إيران ثم كيلها التهديدات ضدها، ولكن مشكلة الأميركيين أنهم لم يستوعبوا حتى الآن أن إيران ليست كوريا الشمالية، وليست حتى العراق أو أفغانستان أو السعودية أو… إيران هي إيران، والإيراني لديه سياسته الخاصة. الإيرانيون يتّحدون حين يواجهون عدواً خارجياً، والسياسة الإيرانية لديها نفس طويل؛ تلعب حتى آخر لحظة ممكنة، وهي لا تستعجل في أي خطوة.
تريد إيران إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل عام 2011
وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، دعا فرنسا وبريطانيا وألمانيا إلى فرض عقوبات تلقائية على إيران، إلا أن جميعهم يعلمون أنه ما من عقوبات تستطيع هذه الدول أن تفرضها على إيران وليست مفروضة عملياً، وعليه فهم رفضوا قبول هذا الطلب، وأعلنوا أنهم لن يعودوا بالملف إلى مجلس الأمن. ولذا، يمكن القول إن إيران استطاعت شق الطريق المسدود الذي قامت الولايات المتحدة بإيصال الجميع إليه، وذلك بتحفيز قوي من الموقف الروسي، والدعم الاقتصادي الصيني.
اليوم، تطالب إيران أوروبا باتخاذ قرار في شأن تنفيذ تعهداتها في الاتفاق النووي، أو نسيانه كلياً وبشكل تدريجي. وأقل شيء يمكن أن تحصل عليه هو بيع نفطها واستعادة ثمنه عبر القنوات المصرفية، إضافة إلى رفع جميع العقوبات الاقتصادية الدولية عنها. وتكمن أهمية الاتفاق النووي بالنسبة إلى أوروبا في أنه يُعدّ أول اتفاقية دولية كبيرة للاتحاد الأوروبي أو الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية. وبما أن الاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن الدولي قاما باحتضانه فهو يعتبر موضوع هيبة للجهتين: إذا ما فشل فإن الولايات المتحدة تكون قد كسرت كلاً من الجهتين. فالاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن قاما بضمان تنفيذ هذا الاتفاق، وفشله يعني أنه ما من جهة عالمية يمكنها أن تقوم بضمان أي اتفاقية، وعليه فإن العالم كله سوف يواجه أزمة عدم ثقة بالمجاميع الدولية، ولن يعود أحد يطمئن إلى أن يقوم بالتوقيع على اتفاقية لحل أزمة دولية، حتى ولو بضمانة الاتحاد أو الأمم المتحدة. ولهذا، يمكن القول إنه، وعلى الرغم من أن البعض يتصورون أن الأوروبيين لا يهمهم بقاء الاتفاق أو فشله، فالمؤكد أنه يهمّ الأوروبيين بنفس ما يهمّ الإيرانيين، إن لم يكن أكثر.
أما بالنسبة إلى الصينيين والروس، فهم ليسوا متحمسين لنجاح الاتفاق النووي بالقدر نفسه الموجود لدى الأوروبيين، ولكن ما يهمهم هو أن تفشل جميع مشاريع الولايات المتحدة في العالم، وخاصة في الشرق الأوسط. فأميركا ترامب دخلت معارك متعددة مع العديد من الجهات في الوقت نفسه، ولم تحسب ربما حساباً لحقيقة أنه إذا ما اتّحدت تلك الجهات فستشكل قوة أكبر من قوة الولايات المتحدة. واليوم، استطاعت إيران تحويل الظروف إلى وضع يسير فيه الجميع على حافة الحائط، مربوطين ببعضهم البعض، ليعبروا معاً، ويجعلوا الولايات المتحدة خارج المعادلة.
هدف إيران من هذا الأمر هو إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل عام 2011، حيث كانت الولايات المتحدة تفرض عقوبات عليها، ولكن المجتمع الدولي لم يكن يجاري الولايات المتحدة في تطبيقها، ولذا استطاعت طهران التعامل مع شركات جميع الدول باستثناء شركات الولايات المتحدة. وطبعاً، قبول الدول الأوروبية بكسر العقوبات الأميركية عبر فتح خطوط اتصال مالية باليورو، وشراء النفط الإيراني، وإيجاد مظلة حماية لتعامل الشركات الأوروبية مع إيران، يعني العودة إلى ظروف ما قبل 2011 بالنسبة إلى إيران. والأخيرة، التي انتظرت سنوات لإعادة عقارب الساعة، لن تبخل على الأوروبيين بـ 10 أو حتى 20 يوماً إضافية.