خلافاً للمرات السابقة التي ظهر فيها رجل «القاعدة» السابق في سوريا، وزعيم «هيئة تحرير الشام»، أبو محمد الجولاني، وهو يحاول استمالة الشارع الذي ضاق ذرعاً به عن طريق سلسلة من التعهدات التي لم ترضِ الأصوات المتصاعدة المناوئة له، خرج، هذه المرة، بتصريحات نارية، متوعداً بالضرب «بيد من حديد» لما اعتبره «تجاوزاً للخطوط الحمر». وتأتي تحذيرات الجولاني بعد أيام قليلة على إرساله مجموعات كبيرة من عناصره إلى مناطق يعتصم فيها الأهالي، حيث قاموا بتفكيك الاعتصامات بالقوة المفرطة، واعتقال عدد كبير من المتظاهرين.وعلى خلفية تلك الاعتصامات، سارع الجولاني، الذي يعيش منذ بضعة أشهر أزمة داخلية متفاقمة، إلى اتخاذ إجراءات عاجلة أملاً بوقف حركة الاحتجاج، والتي اشتدّت بعدما دخل وتنظيمه في دائرة مغلقة من التفكك، إثر انقلابه على عدد من «رفاق دربه» في سياق قبضه على السلطة في مناطق سيطرته في الشمال الغربي من سوريا. إلا أنه وكما فشل في ترميم الصدع الذي ضرب جماعته، فشل كذلك في إخماد التظاهرات، حتى بعد اغتيال الرجل الثاني في الجماعة، صديقه السابق وخصمه «أبو ماريا القحطاني» (العراقي ميسر الجبوري)، والذي اتُّهم تنظيم «داعش» باغتياله.
ومن أبرز الخطوات التي أقدم عليها الجولاني، وفقاً لمصادر «جهادية» تحدثت إلى «الأخبار»، عقد اتفاق مع تركيا لتشديد حراسة حدودها، وتفكيك شبكات تهريب عديدة كانت تنشط تحت كنفه، وتعدّ من مصادر دخل «الهيئة» عبر فرض رسوم مقابل تسهيل مرور أيّ شخص يرغب في دخول تركيا بشكل غير شرعي، بشرط أن يكون الهدف من الدخول هو العبور نحو أوروبا. وبحسب المصادر نفسها، كانت الرسوم تتفاوت بين 100 و300 دولار مقابل كل شخص، تدفعها شبكات التهريب لمسؤولين في «الهيئة»، يقومون بتأمين الطرقات، وتوجيه المهرّبين نحو مناطق محدّدة من الحدود.
والجدير ذكره، هنا أن هذه العملية، التي استمرت على مدار السنوات الماضية، منذ سيطرة «الهيئة» على إدلب، عام 2015، تسبّبت، على ما يبدو، بأزمة بين السلطات التركية التي عقدت اتفاقات اقتصادية كبيرة مع «الاتحاد الأوروبي» مقابل وقف تدفق اللاجئين، فضلاً عن اتفاقات مع الجولاني، أحد أكثر الرجال المخلصين لتركيا. وتأتي تلك الخطوة خصوصاً بعدما اختار عدد كبير من اللاجئين البقاء في تركيا في ظل انقطاع سبل التهريب نحو أوروبا، الأمر الذي ساهم في ارتفاع عددهم، في وقت تحاول فيه أنقرة التخلص من عبئهم عبر طرق عديدة، من بينها بناء تجمعات سكنية على الجانب السوري من الحدود، بدعم قطري، بالإضافة إلى محاولة التوصل إلى اتفاق مع الحكومة السورية، شبيه بالاتفاقات التي أعاد لبنان تفعيلها.
يبقى التحدّي الوحيد الذي يواجه هذه الصفقة هو مدى قدرة الجولاني على تنفيذ وعوده، وقدرته على قمع الاحتجاجات


وفيما أكدت المصادر «الجهادية» أن السلطات التركية عقدت سلسلة اجتماعات مع الجولاني وعدد من مسؤولي جماعته خلال الأشهر الستة الماضية لوضع حدّ لخطوط التهريب، ذكرت أن أنقرة قررت، في ظل استمرار هذه الخطوط، تطبيق خطة جديدة تقضي بنشر قوات إضافية على الحدود، بالإضافة إلى نشر محارس عديدة، على أن يتم نشر مسلحين سوريين فيها يتبعون لـ«الجيش الوطني» (التابع للحكومة المؤقتة المنبثقة عن الائتلاف والتي تسيطر على مناطق في ريفَي حلب والرقة). وبعدما أثارت الخطوة التركية حفيظة الجولاني، الذي يسعى إلى قضم تلك المناطق وضمّها إلى «إمارته»، سارع رجل «القاعدة» السابق، بحسب المصادر، إلى الاتفاق مع تركيا في النهاية على بناء تشكيل من مسلّحيه وظيفته حراسة الحدود، بالإضافة إلى تمشيط المناطق الحدودية بحثاً عن أنفاق التهريب وإغلاقها.
والخطوة التي أقدم عليها الجولاني، والتي ستفرض عليه أعباء إضافية لتأمين القوات المسؤولة عن حراسة الحدود، بالإضافة إلى أنها ستجفّف أحد موارده المالية، رأت المصادر أنها «فُرضت عليه، في ظل الظروف الحالية التي يعيشها»، كونها جاءت قبل أيام قليلة من بدء عملية أمنية واسعة داخل مناطق نفوذه لقمع التظاهرات والاحتجاجات، الأمر الذي اعتبرته المصادر مؤشراً واضحاً إلى وجود صفقة مشبوهة بين تركيا والجولاني، يقوم خلالها الأخير بتشديد حراسة الحدود مقابل غضّ أنقرة طرفها عن العنف المفرط الذي سيستخدمه لضبط مناطق سيطرته. وفي المقابل، تبدو هذه الصفقة رابحة بالنسبة إلى تركيا، كونها تمكّنها من التخلّص من مشكلة التهريب المستمرة، فيما ستساهم إعادة ضبط الأوضاع الميدانية في إدلب في تسريع وتيرة إعادة اللاجئين القسرية والتي تواصل السلطات التركية تنفيذها، فضلاً عن أنها ستوفّر تكاليف نشر قوات إضافية من «الجيش الوطني»، الذي تدفع معظم رواتبه. وهكذا، يبقى التحدّي الوحيد الذي يواجه هذه الصفقة هو مدى قدرة الجولاني على تنفيذ وعوده، ومدى قدرته، أيضاً، على قمع الاحتجاجات المتواصلة والمتزايدة ضده، والتي زاد العنف المفرط الذي مارسه عناصره من حدّتها.