حمل مشهد «حَراك الجامعات» في الولايات المتحدة، والمتمدّد تباعاً إلى خارج الأرض الأميركية، خلال الأيام القليلة الماضية، مؤشرين أساسيين: أولهما يتعلّق بإصرار الطلبة على مطالبهم، ولا سيما ما يتّصل منها بوقف التعاون مع الجيش الإسرائيلي، كما هو الحال في «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»، و»جورج واشنطن»؛ وثانيهما، يتّصل بارتفاع حدّة الضغوط الداخلية على إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، والتي تُعدّ تظاهرات الطلبة في جامعات البلاد المندّدة بالسلوكيات الإسرائيلية في غزة، أحد مدخلاتها الرئيسية؛ علماً أنّ الساعات والأيام الفائتة ضجّت برسائل موجّهة إلى بايدن تحثّه على تغيير تعاطيه مع حرب غزة، ومن جملتها رسالة حملت توقيع 88 مشرّعاً ديموقراطياً، وأخرى حملت توقيع 100موظّف في الكونغرس.
نهج الاعتقالات وشيطنة التظاهرات مستمرّ
في إطار استمرار عدد لا بأس به من الجامعات الأميركية في اعتماد مقاربتها «الخشنة» في التعاطي مع الاحتجاجات الطالبية المؤيّدة للفلسطينيين، ومن ذلك الاستعانة بالأجهزة الأمنية لفض تلك الاحتجاجات في أكثر من مناسبة وفي أكثر من جامعة، كـ»نيويورك»، و»ماساشوستس»، و»كولومبيا»، و»برينستون»، بادرت الشرطة، في الساعات الماضية، إلى فضّ مخيّم احتجاجي كان قد أقامه طلاب في جامعة «كاليفورنيا» سان دييغو، قبل أن تعتقل العشرات منهم، من بينهم 40 طالباً، بتهم شتّى من قبيل «التجمع المخالف لحظر التجول»، و»التآمر لارتكاب عملية سطو». هذا المشهد تكرّر أيضاً في كل من جامعة «فرجينيا» حين اعتقلت الشرطة حوالى 25 طالباً من المتظاهرين بتهمة «التعدّي على ممتلكات الغير»، و»معهد شيكاغو للفنون» حيث تجاوزت حصيلة الاعتقالات 50 شخصاً، انضمّوا إلى نحو ألفي معتقل منذ بدء الحَراك الطالبي.
وفي حين تصرّ إدارات بعض الجامعات على تلك المقاربة، متساهلةً في المقابل مع بعض المتظاهرين المؤيدين لإسرائيل، ممَّن حاولوا شيطنة التظاهرات المؤيدة لفلسطين، والاعتداء على المناهضين لكيان الاحتلال، فقد حاولت أخرى اتّباع مقاربة «أكثر ليونة» لاحتواء الحالة الاحتجاجية في صفوف طلبتها، وفي طليعتها جامعة «كولومبيا» التي قرّرت إلغاء حفل التخرّج لهذا العام، وجامعة «إيموري» التي قرّرت نقله إلى مكان آخر، بينما مالت إدارة جامعة «هارفرد» إلى إعلان نيّتها إحالة جميع الطلاب والعاملين المشاركين في الاعتصامات الداعمة للفلسطينيين إلى إجازة إجبارية. وتتقاطع هذه الإجراءات التأديبية المتشدّدة مع ما نادى به 13 قاضياً اتحاديّاً أميركياً، من المعيّنين إبّان عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، حين أعربوا عن رفضهم تعيين طلاب جامعة «كولومبيا»، وخصوصاً الخرّيجين منهم في قسم الحقوق، في مواقع تخصّص للمتدربين والخرّيجين الجدد سنوياً، فضلاً عن وعيد بحقّ الجامعات والطلاب، كانت قد نضحت به مواقف لرئيس مجلس النواب الأميركي، مايك جونسون، الذي دعا إلى مصادرة تأشيرات الطلاب الأجانب المشاركين في التظاهرات الداعمة لغزة، وإلغاء الإعفاءات الضريبية للجامعات بغية الضغط عليها في ملفّ الحراك الطالبي.
باشرت وزارة التعليم الأميركية في فتح تحقيق فدرالي في جامعة «إيموري» على خلفية تصاعد الشكاوى من المناخ العدائي للإسلام والمناهض للفلسطينيين


وقوبلت تلك المواقف بتصعيد مقابل من جانب الطلاب، ومن جملتهم 17 طالباً من جامعة «برينستون» رفعوا سقف التحدّي في وجه إدارة جامعتهم والشرطة، معلنين شروعهم في إضراب عن الطعام إلى حين تحقيق مطالبهم، إضافة إلى مبادرة زملاء آخرين لهم في إحدى جامعات ولاية ميشيغان إلى مقاطعة خطاب لوزير الحربية الأميركي، كارلوس ديل تورو، خلال حفل تخرّج، للتنديد بالعدوان الإسرائيلي على غزة. ودفع ما تقدَّم مديري جامعات عدّة إلى التريّث قبل أن يحذوا حذو نظرائهم في استجداء «الحلّ الأمني»، ولا سيما أن محلّلين بدأوا يحذّرون من صعوبة إخماد «الحراك الطالبي» مع ثبوت عدم جدوى المقاربة الأمنية في هذا الخصوص، متوقّعين أن يصبح المشهد الاحتجاجي الطالبي أوسع نطاقاً بحلول فصل الصيف، وإمكانية توسعه إلى خارج الجامعات. ومن جهة نظر هؤلاء، فإن ما حصل أخيراً في نيويورك، وتحديداً قيام طلبة بقطع أحد أكبر شوارع المدينة انطلاقاً من إحدى التظاهرات في حرم جامعة «هانتر»، يندرج ضمن المناخ التصعيدي المرجّح أن تشهده مدن أميركية أخرى في حال استمرار الاحتجاجات.

نهج مختلف: الاستجابة للمطالب خيار قائم
وسط هذه المخاوف السائدة في أروقة جامعات أميركية عدّة، فقد شرع عدد منها في إجراءات تصبّ في خانة الطلاب، على غرار كلية الآداب في «جامعة إيموري» الواقعة في ولاية جورجيا، التي صوّتت هيئتها التدريسية لمصلحة حجب الثقة عن رئيس الجامعة، على خلفية استدعائه الشرطة لفضّ الاحتجاجات في حرم الجامعة. بدورها، أعلنت جامعة «كاليفورنيا ريفرسايد»، التوصّل إلى اتفاق مع المحتجّين لتفكيك خيام الاعتصام، مقابل أن تتعهّد إدارة الجامعة بالشفافية والإفصاح عن الاستثمارات وبرامج التعاون الأكاديمي مع الخارج، ولا سيما مع الجانب الإسرائيلي، وهي خطوة كانت قد سبقتها إليها جامعات «براون» و»نورث ويسترن»، إضافة إلى «كلية بومونا» في كاليفورنيا، والتي أجرت تصويتاً على مستوى هيئة التدريس لمصلحة سحب الاستثمارات من الشركات المتورّطة في تمويل حرب إسرائيل على غزة.
ومع أن موقف إدارة بايدن راوح إلى حد كبير بين استنكار التظاهرات الداعمة لفلسطين، وتجاهله، فقد كشفت شبكة «سي إن إن» أن وزارة التعليم الأميركية باشرت في فتح تحقيق فدرالي في جامعة «إيموري» على خلفية تصاعد الشكاوى من المناخ العدائي للإسلام والمناهض للفلسطينيين في حرمها. وهو ما يشير إلى محاولة الرئيس الأميركي لملمة التداعيات السلبية لموقف إدارته من الاحتجاجات الطالبية على صورته أمام الرأي العام الداخلي، بشكل عام، ومواطنيه من الشباب، وأولئك المنحدرين من أصول عربية ومسلمة بشكل خاص.