يتردّد هذا العنوان حتى بات هدفاً، وحتى برنامجاً قائماً بذاته، في أطوار ومُدد متلاحقة من مراحل أزمات لبنان المتناسلة والمتواصلة. أُصول القوى السياسية التي بكَّرت في طرح هذا العنوان هي، عموماً، القوى التي وُصفت بـ«الانعزالية». وهي امتداد لقوى البورجوازية اللبنانية الصاعدة في مطالع القرن الماضي، والممَثّلة لفعاليات مدنية ودينية. لعبت تلك القوى دوراً محلياً مبادراً في مرحلة تأسيس لبنان، ومحورياً، لاحقاً، في النظام السياسي اللبناني، عبر «الصيغة» التي فرضها ورعاها الانتداب الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى. إلى ذلك، وقعت الصيغة المذكورة في سياق مخطط للنهب والهيمنة، بقوة الجيوش الغازية ومشاريع التفتيت والأدوات المحلية التابعة، والذي استهدف منطقة الشرق الأوسط ولا يزال. تضمّن ذلك المخطط رعاية إنشاء الكيان الصهيوني وتعهده بكل أسباب النجاح والعدوان والتوسع في فلسطين وكل المنطقة. حرب الإبادة الهمجية المتواصلة في غزة هي حلقة في ذلك المخطّط القديم الجديد. خصوصية «الانعزالية» اللبنانية أنها جاهرت بتبني هوية وانتماء أجنبي متعارضين مع مناخ المحيط العربي المشرقي الشامل وبيئته. وهي حرصت دائماً على الدمج ما بين وجود لبنان وطبيعة نظامه السياسي المكرّس بـ«امتيازات» داخلية في «كوتا» طائفية يمارس أحد أطرافها دور الوكيل المهيمن والمستأثر الذي يحظى بالرعاية الخارجية مقابل الولاء والتبعية المطلقين. الطريف في الأمر، أن هذه القوى قد اختارت أن تطلق على نفسها دائماً لقب القوى «السيادية». و«سيادتها» كانت تُختبر وتتأكد بمقدار ما كانت تناهض كل نزوعٍ تحرري، محلي أو إقليمي، للتخلص من الهيمنة الاستعمارية في الميادين كافة: السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية، أو حتى في أحدها فحسب.
«الانعزالية» اللبنانية المذكورة ذات سجل حافل في الارتكابات والانتهاكات، ما قاد إلى الفشل التام في بناء دولة قانون ومؤسسات وعدالة ومساواة، محصنة بوحدة وطنية راسخة وضامنة. نتوقف عند بعض النماذج: محاولة التمديد للرئيس كميل شمعون عام 1958، المنخرط في حلفي بغداد وإيزنهاور، وما أعقبها من نزاع سياسي، وصراع دموي داخلي، واستدعاء للأسطول السادس الأميركي وتدخله. «السيادي» أمين الجميل الذي جاء، كأخيه المغدور، رئيساً، في كنف الغزو الإسرائيلي وعلى ظهر دباباته، وقَّع، في مثل هذه الأيام، قبل 41 عاماً، «اتفاق 17 أيار» الذي كان من شأن تطبيقه تحويل لبنان إلى محمية إسرائيلية. الجميّل نفسه الذي كان يمسك بـ«قرار الحرب والسلم»، تجاهل الحكومة القائمة، وشكل حكومة عسكرية دفعت الصراع الداخلي إلى مداه الأقصى «شرقاً» و«غرباً» وما بينهما، فكانت الوصاية المباشرة التي استمرت 15 عاماً.
هذان المثلان أكّدا، ومن صلب التجربة اللبنانية المريرة نفسها، بأن المقاومة اللبنانية، السياسية والعسكرية، التي أجبرت لبنان الرسمي على إلغاء اتفاق 17 أيار، والعدو المحتل على الانسحاب، تباعاً، مهزوماً ودون شروط، هي التي كانت تعبّر عن الشرعية اللبنانية الحقيقية: شرعية الشعب والمصلحة الوطنية، لا شرعية سلطة تابعة وخانعة ومفرِّطة بالمصالح العامة خدمةً لسيد في الخارج وفئوي في الداخل.
الغريب، في هذا السياق، أن يواصل نفر حزبي ويساري سابق، تلك الانحرافات الخطيرة، مكرراً «كز» شعارات الفريق الانعزالي بالتباكي على مصادرة «قرار السلم والحرب»


هذا الأمر لا ينحصر بلبنان وحده! لقد فرضت القوى الاستعمارية، حيثما حلّت في كل أرجاء المعمورة، سلطات محلية تابعة. وهي توسّعت في ذلك بعد الحرب العالمية الثانية، ثم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لتشمل دولاً كبرى: في إقليمها أو في العالم أجمع. إنها، عموماً، الدول المهزومة في تلك الحرب، والتي حولتها الولايات المتحدة إلى شبه مستعمرات تدور في الفلك الأميركي، رغم أن بعضها يحتل مواقع اقتصادية وصناعية متقدمة وبارزة في الاقتصاد العالمي. بل إنّ واشنطن قد تمكّنت، أيضاً، من استتباع دول استعمارية كبرى، خصوصاً منها «بريطانيا العظمى» وفرنسا، فضلاً عن كل دول الاتحاد الأوروبي شرقاً وغرباً، واستخدام بعضها (كأوكرانيا) أداة استفزاز أو كبش محرقة في محاولاتها المستميتة للدفاع عن مواقعها المتراجعة في العالم.
تحوَّل لبنان، خصوصاً بعد «تسوية الطائف»، وبسبب عدم تطبيق إصلاحاتها بالبتر وبالتجاهل، إلى كونفدرالية طوائف متنازعة داخلياً وملتحقة خارجياً. تعرّضت سيادته، دائماً، لانتهاكين خطيرين. الأول، من الداخل، بسبب تحاصص القرار والموارد والمؤسسات بما فيها ذات الطابع «السيادي». الثاني، من الخارج، بسبب التبعية التي تعمقت إلى الحد الأقصى في المراحل الأخيرة. الفشل المقرون بغياب المحاسبة وباستمرار النهب والفساد والتفكك وتعطيل الدستور وتناتش المسؤوليات والعجز عن انتخاب رئيس جمهورية وتشكيل حكومة طبيعية... هذا هو الوضع الذي سبق، بحوالى السنة، الحرب في غزة.
شكّلت حرب غزة تحدياً استثنائياً لمسار تصفوي كان يستهدف، بالتطبيع والترهيب، إخضاع كل شعوب المنطقة ومصائرها، لمصلحة التحالف العدواني الأميركي الصهيوني. لبنان من أكثر المعنيين بهذه الحرب، خصوصاً إذا تمكّن العدو الصهيوني من تحقيق انتصار حاسم فيها، يؤدي إلى «إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط» لمصلحة العدو وحماته، كما توعّد نتنياهو! الجهة اللبنانية الرسمية المعنية بـ«قرار السلم والحرب» عاجزة، بالفراغ والتعطيل والانقسامات، عن المبادرة مبدئياً وعملياً. يُسجل للمقاومة هنا قرارها الشجاع في المسارعة إلى التضامن مع الشعب الفلسطيني، وإلى المشاركة في التصدي للعدوان الصهيوني الذي تحوّل فوراً إلى عدوان أطلسي وحليف شامل! يستعيد هذا الوضع، إلى حد كبير، ما فعلته المقاومة اللبنانية بكل أطرافها، بما فيها الطرف المبادر الذي مثّله الحزب الشيوعي وحلفاؤه عبر «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» (جمول) صيف عام 1982، حين قرّرت التصدي للغزو الإسرائيلي للبنان. كانت الشرعية و«قرار الحرب والسلم» مصادرَين من قبل المحتل... يصبح هذا التذكير شديد الأهمية لأن ثغرات متعددة قد شابت موقف الحزب الشيوعي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وخصوصاً في مسألة استئناف دوره في مقاومة الاحتلال الصهيوني. نجم ذلك عن سلسلة انحرافات سياسية بدأت بالالتحاق بـ«لقاء البريستول»، وقبله بانفتاح متسرع ومنفعل على الرئيس أمين الجميل وقائد «القوات» سمير جعجع... وقد تفاقم هذا الأمر لاحقاً بالالتحاق بفريق 14 آذار... إلى الخلل في الموقف من «انتفاضة 17 ت» خصوصاً بعد أن صادرتها واشنطن، مباشرة، أو عبر قوى يمينية ذات تاريخ عريق في الرجعية والطائفية والتبعية للغرب الاستعماري.
الغريب، في هذا السياق، أن يواصل نفر حزبي ويساري سابق، تلك الانحرافات الخطيرة، مكرراً «كز» شعارات الفريق الانعزالي بالتباكي على مصادرة «قرار السلم والحرب»، فيما تجتاح العالم موجة، هائلة من التضامن مع الشعب الفلسطيني في مواجهة حرب الإبادة الصهيونية الأميركية التي تستهدف غزة خصوصاً! إنه نكوص خائب تجلّت وكشفت بعض مقدماته في مواقف وعلاقات وسلوكيات وكتابات ومقابلات، دلَّت جميعاً على أن البعض كانت مشكلته مع أخطاء الأجهزة السورية، لا مع العدو المحتل الذي طردته المقاومة وفرضت عليه انسحاباً ذليلاً وغير مشروط.
أحقية القرارات السيادية (بما فيها قرار الحرب والسلم) ومرجعيتها تحددها، في ظروف تبعية السلطة الرسمية وعجزها وفشلها، الشرعية الشعبية والمصالح الوطنية، ولا أحد سواهما!
* كاتب وسياسي لبناني