لعل أهمّ وأخطر قرار سياسي، على المستوى التكتيكي، أُخِذ خلال الأشهر السبعة الماضية، ويزيد، منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، كان قرار قيادة المقاومة في قطاع غزة في 6/5/2024، والذي بُلِّغ رسمياً، باسم قيادة «حماس»، إلى المفاوضَين القطري والمصري، بالموافقة على ما وصلت إليه المفاوضات الأخيرة الجارية في مصر. وذلك للتوصل إلى اتفاق يتعلق بوقف «إطلاق النار»، وتبادل الأسرى، والانسحاب على مراحل من قطاع غزة، حتى من دون أن يكون اتفاقاً كاملاً لوقف إطلاق النار (وقف العدوان واستمرار المجازر ضد المدنيين وتدمير العمار). ولكنه في محصّلته قبلت به قيادة «حماس» التي أسهمت في ما جرى التفاهم عليه، في المفاوضات الأخيرة.جاء القرار مفاجئاً، أو صاعقاً، لنتنياهو، وقادة مجلس الحرب في الكيان الصهيوني. وقد عَبّرت عن ذلك عدة تصريحات وتعليقات من داخل الكيان الصهيوني، كما جاء مفاجئاً حتى للمفاوضين في القاهرة لأن قيادة المقاومة في قطاع غزة كانت مستمرة في التفاوض وإبداء تعديلات، أو تحفّظات، حول تفاصيل الاتفاق، وإذا بها عند الوصول إلى نقطة محددة، رأت أنها كافية لاتخاذ القرار الفذّ/ المفاجأة.
إنّ أول ما جنته قيادة المقاومة من هذا القرار، هو تعزيز ثقة حاضنتها الداخلية بها في قطاع غزة. وذلك حيث التأكيد على حرصها الشديد على وقف العدوان، وما يتعرّض له الشعب من إبادة، دامت أكثر من سبعة أشهر. الأمر الذي يعزز أكثر فأكثر، العلاقة العضوية بين قيادة المقاومة والشعب. الشعب الذي سطّر ملحمة أسطورية في الصمود والتضحية والإيمان، واحتمال ما لا يحتمله البشر من إبادة وجرائم قتل جماعي، وتدمير للبيوت والمنشآت. إضافةً إلى تجويع وتعطيش، وحرمان من الدواء.
ولكن في مجرى الصراع السياسي والعسكري، فقد جاء القرار ليحقق، أيضاً، انتصاراً مدوّياً ضد نتنياهو، وضد الإدارة الأميركية التي كان موقفها اتهام «حماس» بالمسؤولية في عدم الوصول إلى اتفاق لوقف القتال، ولو لفترة قصيرة أو ليست نهائية، الأمر الذي أدخل نتنياهو في أسوأ وضع يواجهه، حيث يكون الخاسر إذا وافق على تطبيق القرار، والخاسر إذا رفضه، فيما تكون قيادة المقاومة، والمقاومة عموماً، هما الكاسبين منه إذا تمّت الموافقة عليه من نتنياهو، وهما الكاسبان إذا رفضه وذهب إلى الحرب في رفح أو استمر في الحرب.
إنه قرار يجب أن يسجّل في علم إدارة الصراع، كنموذج للتكتيك، فائق الدقة والمهارة. وهو أن تطرح موقفاً على عدوّك، إذا قبله خسر وكنت الرابح، وإذا رفضه سيكون الخاسر، وأنت الرابح.
إنه التكتيك الذي «لا يخرّ منه الماء» من حيث الدقة والإتقان في إدارة الصراع، أي نموذج التكتيك الصائب الناجح الذي يُتعلّم منه.
من هنا، وضع هذا التكتيك قيادة الحرب العدوانية الصهيونية في مأزق حقيقي، كيف تتعامل وإياه: بين خيارين، كل منهما أسوأ من الآخر. وإذا كان الاحتمال الأقوى اختيار رفضه، والذهاب إلى حرب رفح، فسوف يكون الكيان الصهيوني قد تأخر خطوة في اتخاذ هذا القرار، سواء كان بالنسبة إلى جمهوره، أو كان بالنسبة إلى علاقته بأميركا وحلفائها، أو كان من الناحية السياسية والأخلاقية، ما يزيد من تفوّق المقاومة عليه في حرب رفح.
بكلمة أخرى، كان وضع الكيان الصهيوني «أقوى» لو سبق هذا القرار، بالدخول في حرب رفح، ولكانت خسارته العسكرية والسياسية والأخلاقية أقل فداحة من خسارته لحرب رفح، وهي مؤكدة، بإذن الله، في الحالين.

* كاتب وسياسي فلسطيني