عندما أرسل لي أحد الرفاق نص نديم قطيش الذي أنتقده في مقالي هذا، لم أعرف بصراحة من هو نديم قطيش. عندما بحثت عنه، وجدت رودني الحداد يتساءل: لماذا يتصور نديم وكأنه كالأشرار العباقرة؟ (فعلاً، قطيش يذكرني بشخصية Dr. Evil في أفلام أوستين باورز). بعد دراستي قطيش لمدة، اكتشفت أنه كما يقول نورمان فنكلستين عن الإعلامي بيل ماهر (الذي اعتبره «جوزيف غوبلز» الصهيونية الليبرالية في أميركا): «خليط من العنجهية والغباء». أمّا بالنسبة إلى الحذاقة والحدية لدى قطيش وكونه Edge-Lord، فالصورة النمطية لـ«الكاتب اللعين» قد استهلكت منذ وقت بعيد. حتى «الجزيرة» وظّفت إسلاميين للسخرية من «تخشّب الماركسيين» من دون فهم أي شيء عن الماركسية. نديم قطيش يجمع أسوأ صفات مقدّم البودكسات من اليمين الشعبوي الموجود على هامش الإنترنت، مثل راش ليمبو في التسعينيات والكيس جونز الآن، إلى صفات الطفل المدلل لدى الإعلام الرسمي. في بدايات هذا العام، بات قطيش مديراً لقناة «سكاي نيوز عربية» التي هي، رغم تمويلها الإماراتي، تعتبر فرعاً من قنوات «سكاي غروب»، والأخيرة فرع من شركة «كومكاست» التي تملك كلاً من قناة «MSNBC»، المدافعة عن أيديولوجية العدالة الاجتماعية (Woke) وسلسلة قنوات «سكاي نيوز» المحافظة والمهاجمة لأيديولوجية العدالة الاجتماعية أي «Anti-woke» (أي إنّ الشركة الأم كانت تنوي من البداية أن تشتغل بنا وبعقولنا).
أُورد هذا الشرح لنفهم السياق الذي كتب فيه قطيش مقاله: «عن سجننا بين إدوارد سعيد ونتنياهو» (على الهامش، هناك صرعة جديدة لدى مناهضي الممانعة: «على إسرائيل أن تتخلى عن نتنياهو وعلى حزب الله أن يتخلى عن سلاحه». ما علاقة هذه بتلك؟ أليس من الأفضل مقايضة سلاح حزب الله بتفكيك إسرائيل لبرنامجها النووي مثلاً؟ أين طموحكم؟). كان في إمكان نديم قطيش أن يختار عنواناً آخر، «عن سجننا بين إسماعيل هنية ونتنياهو» مثلاً، ولكنه تعمّد اختيار هذا المقال لأنه لم يكن يواجه فيه الممانع التقليدي، بل بات يواجه الطلاب المعتصمين في الجامعات الأميركية، ولذلك اختار هذه المرة أن يظهر ليس بمظهر مقدّم البودكاست الشعبوي، بل بالمظهر الأنيق لناقد نقد الاستشراق.
ينوّه قطيش، عبر مقاله، إلى أن إدوارد سعيد هو الذي وضع الأساسات للتحالف «غير الطاهر» بين يسار العدالة الاجتماعية في الغرب ويمين الممانعة في الشرق. هنا يتبنى قطيش بكائيات اليمين الأميركي النازعة للشرعية عن المظاهرات الداعمة لفلسطين، بشأن موت التربية والتعليم ونهاية الجامعات في أميركا وانهيار الحضارة الغربية (يذكرني قطيش هنا بالكتّاب الخليجيين عندما يكيلون المديح لجورج كينان كمثال للمثقف الأميركي من المحافظين الجدد. في الحقيقة، كينان ندم لأنه نصح القيادة الأميركية باحتواء السوفيات وبات داعماً للطلاب المعارضين للسلاح النووي الأميركي، ومات وهو ينظر إلى نهاية الديموقراطية الأميركية على يد مجمع الصناعة العسكري).
أولاً، أنت لا يمكن أن تنتقد تقسيم إدوارد سعيد العالم إلى شرق وغرب، وأنت أقمت كل سيرتك المهنية على التقسيم المبسّط لمنطقتنا إلى كوريا جنوبية إسرائيلية وكوريا شمالية إيرانية، أنت بذلك فقدت أدوات النقد قبل أن تبدأ.
ثانياً، إدوارد سعيد لم يكن من متطرفي أيدولوجية العدالة الاجتماعية. الباحثة الجنوب أفريقية-اليهودية بنيتا باري، وثّقت كيف أدان سعيد الأكاديميا الغربية ما بعد الحداثية لأنها شجّعت المثقفين على تسخيف التاريخ «بشكل لا يصدّق» بدلاً من احترام ثقله. ثم إدوارد سعيد، لم يكن من دعاة إدانة الولايات المتحدة كمستعمرة، لأنه رآها كمجتمع ما بعد استعماري وليس كمجتمع استعماري (كما هي إسرائيل)، بل فرّق بين المجتمع السياسي الأميركي الموجود في قلب الإمبراطورية في واشنطن، والمجتمع المدني الأميركي (هذا قبل أن يتم تشويه مصطلح المجتمع المدني)، وفي ذلك اعتمد على المبادئ الدستورية الأميركية التي أنشأت هذا المجتمع المعارض للسلطوية والمشاكس الذي يملك إمكانات واعدة لدعم الفلسطينيين. هذا ببساطة ليس كلام معاتيه العدالة الاجتماعية، الذين يقسّمون الأميركيين المعاصرين إلى هنود حمر ومستوطنين بيض، والذين يعتبرون أنه لا يوجد فرق بين جارك الأبيض الأميركي الطيب - الذي يحسب حسابك في فطيرة التفاح نهاية الأسبوع - وبين مستوطن صهيوني في الضفة.
مقولات نديم قطيش عن إدوارد سعيد، تكشف عن قطيش أكثر ما تكشف عن سعيد. فكما أن قنوات «سكاي نيوز» تنتقد أيدولوجيا العدالة الاجتماعية بطريقة غير علمية فظة وحمقاء، فإن قطيش يناهض الممانعة والإسلام السياسي وإيران بذات الحماقة (على الهامش، من كان يريد نقداً لإيران، في إمكانه أن يتصفح مقالات العلاقات العربية-الإيرانية في مركز دراسات الوحدة العربية). وحتى لو سايرنا مناهضي الممانعة، ووافقنا أن هنالك «إمبريالية إيرانية» في المشرق، فليس هنالك فرق بين أنتي-إمبريالية الحمقى التي يتبنّاها قطيش وبين مناهضة الإمبريالية الغربية من قبل الحزب الواحد والحاكم الأوحد.
قطيش في الحقيقة هو من الجيل الثاني من المحافظين الجدد، المتطرف بالنسبة إلى الجيل الأوّل من المحافظين الجدد، كنوري المالكي المكروه من قبل قطيش (يذكرني ذلك كيف أن «القاعدة» هي أقل تطرفاً من «داعش»). الجيل الأول على الأقل حاول إقناعنا بأن هناك أموراً إيجابية في أميركا، أمّا الجيل الثاني، فيحاول أن يقنعنا أن هناك إيجابيات لإسرائيل. أميركا، والحق يقال، فيها أمور إيجابية في الداخل، رغم كونها إمبريالية في الخارج، كالمبادئ الدستورية التي ذكرها إدوارد سعيد (بالمقارنة مع المستعمرة البلا دستور المعشوقة من قبل قطيش). يقول سعيد إن تلك المبادئ الدستورية صنعت صنفاً من الفردانية الناضجة، المسؤولة، المهتمة بالعدالة، المهتمة بالتضامن، والتي تخفف من آثار الفردانية العارية، الضيقة، التنافسية، المتعطشة للدماء اجتماعياً. المشكلة في نديم قطيش وغيره من الجيلين الأول والثاني من المحافظين الجدد، هي في أنهم يتبنون ويريدون تصدير النوع الثاني من الفردانية الأميركية إلى بلادنا.

* باحث فلسطيني