يبقى الحل الأنسب للتكيّف مع الواقع تشكيل حكومة تضم اختصاصيين
وإذا كانت المناصفة الطائفية وضرورة تمثيل الأحزاب في الحكومة بغضّ النظر عن نتائج الانتخابات النيابية أمراً جيداً بطبيعة الحال، إذ إنه يمنع تهميش الأقليات في لبنان، إلا أنه لا يؤخر فقط تشكيل الحكومة العتيدة، بل يعوق أيضاً انطلاق عملها. ومن شأن وجود ممثلين عن أغلبية الأحزاب المتناحرة في مجلس الوزراء أن يعوق عمله ويشلّ البلد ويعطِّل مصالح المواطن عند كل استحقاق داخلي أو حتى خارجي. فاستراتيجية لمّ الشمل المعتمدة حالياً في تشكيل الحكومات من شأنها أن تجعل جميع التناقضات الأيديولوجية والسياسية الموجودة في الشارع اللبناني وبالتالي في المجلس النيابي حاضرة في الحكومة. ولو أنه شيء طبيعي جداً أن يعكس المجلس النيابي تناقضات المجتمع اللبناني، إذ إنه دليل على صحة التمثيل والعمل السياسي في لبنان، إلا أن مجرد ظهور هذه التناقضات في مجلس الوزراء هو تجنٍّ على السلطة الإجرائية في البلد. ففي فرنسا مثلاً، من الضروري أن يكون الفريق الحكومي مؤلفاً من أشخاص ينتمون إلى حزب أو تكتل واحد، وبالتالي إلى أيديولوجية واحدة، ومن شأن ذلك أن يسهِّل العمل الوزاري واتخاذ القرارات المناسبة التي من شأنها أن تسيّر أمور الناس. فكيف لنا أن نتخيّل في لبنان وجود الموالاة والمعارضة وأحزاب يسارية ويمينية على طاولة مجلس الوزراء وفي فريق عمل واحد لمجرد أنها تمثل طائفة معينة؟ وكيف لنا أن نتخيّل أن يكون العمل الحكومي ناجحاً ومثمراً في ظل هذه التناقضات؟ وللأسف الشديد فقد أصبحت هذه التناقضات مقبولة ومتعارفاً عليها في لبنان، إذ مثلاً بعد صدور نتائج الانتخابات النيابية صرّح رئيس أحد أحزاب ١٤ آذار قائلاً: «سوف نكون صوت المعارضة في مجلس الوزراء». هذه الجملة لا يمكن إلا أن تثير الاستغراب الشديد، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو أنه كيف لحزب يدعي أنه معارضة أن يطلب أن يكون في مركز السلطة وأن يحتفظ بصفة المعارضة. فمن البديهي القول إنه عندما تصبح المعارضة في السلطة تنتفي عنها حكماً صفة المعارضة. فإما للمعارضة أن تعارض وتبقى خارج السلطة، وإما أن تشارك في الحكم وتصبح جزءاً من الموالاة .
بغضّ النظر عن هذه الاستراتيجية الخاطئة في تشكيل الحكومات، يبقى الحل الأنسب للتكيّف مع الواقع اللبناني تشكيل حكومة تضم وزراء اختصاصيين لا حزبيين، أو ما يُسمى حكومة تكنوقراط. علماً أيضاً بأنّ من الصعب أن توافق جميع المكونات اللبنانية على هذا النوع من الحكومات، نظراً لحساسية بعض الوزارات. ففي هذه الحالة، يمكن استثناء بعض من هذه الوزارات، خصوصاً تلك التي لها أبعاد استراتيجية مهمة، كوزارة الخارجية، أو حتى الدفاع، على سبيل المثال. أما بالنسبة إلى الوزارات التي تمسّ الحياة اليومية والأمور المعيشية للمواطن اللبناني مثل وزارة الصحة والطاقة والشؤون الاجتماعية، فيجب أن تسحب من التجاذبات السياسية، على أن تُسنَد، كما سبق القول، إلى وزراء اختصاصيين. من شأن هذه الخطوة أن تسهّل وتسرّع عمل الوزير في وزارته بما أنه يتمتع بالكفاءة المطلوبة التي من شأنها أن تساعده على تسيير أمور وزارته ورصد أماكن الخلل والفساد والقضاء عليهما.
هذا النوع من الحكومات لا يعني بالضرورة تحجيم دور الأحزاب السياسية في البلد، لأن العمل الحزبي هو جداً أساسي وضروري في الدول الديمقراطية كما في لبنان. لكن من المهم تحرير قسم كبير من العمل الوزاري من التناقضات السياسية والحزبية. ويبقى للأحزاب، وخصوصاً المعارضة، أن تلعب دوراً فاعلاً وأساسياً داخل مجلس النواب عبر التشريع ومراقبة عمل الحكومة والمحاسبة عند الحاجة.
* دكتور في القانون الدولي، وأستاذ محاضر في جامعة «رين» والمعهد الكاثوليكي في فرنسا