في دراسة السياسة البريطانية، يتمّ الاشارة الى ما يدعى «سردية الانحدار» كعنصرٍ ساهم، بعمقٍ، في تشكيل الخطاب والوعي السياسي بعد الحرب العالمية الثانية. منشأ السردية هو وعي النخب والباحثين في البلد أنّ السنين الذهبية لبريطانيا قد ولّت، وأنّ أمتهم ــــ التي كانت أكبر قوة عالمية وبحرية عرفها التاريخ ــــ تتحوّل تدريجياً الى بلدٍ «عادي»، متقهقر، يعاني آثار تفكك امبراطوريته وزوال امتيازاته. هذا الخطاب المتشائم هو الذي يدفع الساسة البريطانيين، خاصة في الحزب المحافظ، الى ترداد أن «أفضل أيام بريطانيا ليست خلفها» في الحملات الانتخابية والخطابات السياسية، في ما يشبه تأكيد الساسة اللبنانيين الدائم بأنّ مواطنيهم أخوة ومتحابّون.
«الملكة اليزابيث»، وهو اسمٌ لفئة جديدة من حاملات الطائرات، وهي مثالٌ معاكس لنزعة الانحدار هذه. السفينة الأولى من هذه الفئة، «الملكة اليزابيث»، قد اكتمل هيكلها وتمّ تعويمها تجريبياً، ولكنها لن تدخل الخدمة قبل سنوات من التجهيز والتدريب. أما أختها التوأم، «أمير ويلز»، فما زالت في مراحل البناء الأولى. تمثّل الحاملتان أوّل «مشروع وطني» كبير ــــ بالمعنى العسكري ــــ تنفّذه بريطانيا منذ عقود: تصميم بريطاني، تصنيع محلي بلا شراكة خارجية، وهي أضخم سفينة يبنيها الأسطول الملكي في تاريخه المديد.
ستكون السفن الجديدة (ازاحتها تفوق الـ 65 ألف طن) أكبر بثلاث مرات من حاملات «انفينسيبل» التي تستبدلها، وستمثّل فئة خاصة من حاملات الطائرات، تقع بين الحاملات الفرنسية والروسية (30 ــــ 40 الف طن)، والحاملات الأميركية العملاقة التي تفوق ازاحتها المئة ألف طن، وتقدر على حمل أكثر من 80 طائرة من طرازات متنوعة (جناح جوي كامل).
«الملكة اليزابيث» معدة لاستيعاب ما يقارب الأربعين طائرة من طراز «اف ــــ 35»، التي وقع عليها الخيار لتجهيز الحاملة؛ وهي تحوي عدّة ابداعات تقنية جديدة، كاعتماد برجين للقيادة بدلاً من برج واحد في جانب الحاملة (سيكون البرج الأمامي مخصصاً للملاحة حصراً، بينما الخلفي مختصّ بالعمليات الجوية)، ومصاعد طائرات بالغة القدرة والسرعة، الخ... الّا أنّ المعنى الحقيقي للحاملات ــــ رغم ضخامتها وطموح تصميمها ــــ يتلخّص في محاولة البحرية البريطانية، في عصر التقشّف، بناء قوة بحرية «على الرخيص».
يستخلص محلل عسكري، اسمه بيتر روبرتس، أن الابداع الحقيقي في الحاملة هو ليس في اطار القدرات العسكرية، بل في ترشيد التصميم والاداء حتى يجري بناء وتشغيل السفن بأقلّ كلفة ممكنة. سعياً الى التوفير، تمّ استعمال تقنيات بناء مستعارة من الصناعة البحرية المدنية، كتقسيم الحاملة الى أجزاء وتشييدها في أحواض مختلفة ثم جمعها، واعتماد الحد الأقصى من الأتمتة ــــ اذ كان التركيز منصبّاً على خفض حجم الطاقم الى أقل قدر ممكن (ثلث عدد البحارة الذي تحتاجه الحاملات الأميركية). تمّت التضحية بالدفع النووي واعتماد محرّكات تقليدية، على حساب السرعة ومدى الملاحة، لأنها أقل ثمناً. الكلفة الحقيقية لهذه القطع البحرية الكبرى تكمن في تشغيلها ووقودها وطاقمها، وليس في سعر انشائها فحسب؛ اميركا، مثلاً، تملك 11 حاملة طائرات في اسطولها، لكنها لا تشغّل في مهامٍ بحرية أكثر من اثنتين أو ثلاث في الوقت نفسه، لفداحة الكلفة.
تبدو «الملكة اليزابيث»، من الخارج، محاولةً لإحياء التقليد البحري البريطاني المتفوّق؛ ولكن الحاملات هي، في الحقيقة، مؤشر على مصير البحرية البريطانية في عهد «الاندحار». السفن ضخمة ومثيرة للاعجاب، بلا شك، ولكنّها تحتاج الى طائرات اميركية، ودعمٍ اوروبي، ولن تتمكن من الابحار في مهام جدية بلا حماية ومرافقة من أساطيل الـ «ناتو». بل انّ بريطانيا لن تتمكّن من تجهيز الحاملتين بطقم كامل من الطائرات الخفية، لارتفاع ثمنها، بل ستستعملها – عمليا – كحاملات حوامات في زمن السلم، وتستعين بطائرات الحلفاء لتجهيزها أيام الحرب (تقول التقارير إن الطيارين الأميركيين سيكونون أول من يشغل الحاملة في السنوات القادمة، في انتظار أن يتسلّم البريطانيون الطائرات الجديدة ويستوعبوها، وسيكون اصلاحها في مرافىء فرنسية، لأن بريطانيا لا تملك أحواضاً جافة بالحجم الكافي).
قبل عقود ثلاثة، أيام حرب «الفوكلاند»، كانت بريطانيا، رغم حاملاتها الصغيرة، قادرة على الأقل على ارسال قوتها الضاربة الى الشطر الآخر من العالم، من دون دعم من الخارج أو الحلفاء، وهزيمة قوة اقليمية في عقر دارها. أمّا «الملكة اليزابيث»، فهي تعبير عن زمنٍ جديد، لا تتخيّل بريطانيا فيه فعلاً عسكرياً خارج المظلة الأميركية، وتصمّم معدّاتها للعمل ضمن منظومة الامبراطورية (الجديدة). إن كان سلوك بريطانيا في سنين ماضية يجري في تفاعل مع خطاب «الانحدار»، فإنّ الأسطول الجديد يعبّر عن قبول لندن لموقعها الجديد في التاريخ: قوّة من الصفّ الثاني ولّت أيام مجدها الى الأبد.
15 تعليق
التعليقات
-
عن "الأَتْمَتة" واللغةكما قال الرّفاق المعلّقون أعلاه، فإنّ تعبير "الأَتْمَتة" صار رائجاً ومستخدماً في الأدبيات التقنية والصناعية باللغة العربية؛ التنازل الوحيد الذي قد أقدّمه في هذا الاطار هو في التأكيد على تحريك مثل هذه الكلمات المعرّبة، حتى يصير لفظها ونسبها أوضح لمن لا يألفها. أشكر الرفاق المعلّقين على مداخلاتهم القيّمة، ولا أوافق لوقيان على فكرة "تخلّف لغتنا"، وان كنت أؤمن بأن هناك حاجة لاستخدامات أكثر ابداعية وتحرراً للغة العربية. العربية - كنظام لغوي - هي لغة مكتملة العناصر وثرية ومعبّرة، ولهادي العلوي - مثلاً - نظرية مثيرة في كيفية تطويرها واستعمالها لانتاج أشكال جديدة وحيوية ومتغيّرة في الكتابة والايحاء. الشكر موصول للزميلة العزيزة ضحى التي حفّزت هذا النقاش، ولهيفاء العزيزة، وعايدة واخصائيتنا اللغوية... دمتم يا رفاق.
-
أتمتةللأسف، نحن في لبنان بعيدون عن لغتنا الجميلة ولا نلم بتطور مصطلحاتها، بل نتبنى ونفضل المصطلحات الأجنبية ونكتفي بدور المتلقي. الأتمتة مصطلح صحيح مئة بالمئة ومعروف ومستخدم. بحث بسيط على الغوغل يظهر مدى انتشاره.
-
الأتمتةالحقيقة أنني تفاجأت لأن القليل من القراء يعمل بهذا المصطلح، بينما هو منتشر ومعروف في الأوساط المتخصصة، وغيرها، حتى أنه موجود على ويكيبيديا. ومثال على ذلك: http://www.reefnet.gov.sy/Arab%20Encyclopedia/practical-siences/technology/automatization.htm http://www.ebusweb.com/automation/ https://www.linkedin.com/company/automation-systems--- http://www.minshawi.com/other/gendelgy7.htm وأخيرا http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D8%AA%D9%85%D8%AA%D8%A9 فرجاء، عودوا إلى لغتنا الجميلة... فمجال التطوير والنحت واسع..
-
ما حبيت اسم الملكة اليزابيثلم أجد في المقال ما يمكن الاختلاف بشأنه... أكثر من رائع ويعالج جوانب لا يتنبه لها معظم الناس... ولكن ما يثير الإحباط عندي هو اسم حاملة الطائرات الجديدة... الملكة اليزابيث ! وهو يمثل اليوم حاملة طائرات ورمزاً للقوة العسكرية البريطانية... المضحك أن الاسم يعود في جذوره لبلادنا اقتبسه الأوروبيون مع انتشار المسيحية في بلادهم... بينما أول حاملة الطائرات في التاريخ كانت بريطانية... ومن المضحك أيضاً اننا لم نقتبس منهم فكرة الحاملة بعد... يغيظني أن الهند والصين مثلاً وقد كانت دول زراعية متخلفة بعيد الحرب العالمية الثانية لديها اليوم حاملات طائرات وبرامج فضائية بس العترة علينا بعدنا ما وصلنا للاستقلال... ما بعرف كيف بدو يكون عنا كرامة اذا ما كان عنا حاملات طائرات... صحيح انو لندن قبلت بموقعها الجديد في التاريخ ولكن متى سنرفض نحن موقعنا في التاريخ؟
-
انا ارى من موقعي كقارئ عاديانا ارى من موقعي كقارئ عادي ضرورة تفنيش والتأكيس على وجود هذا الرايتري.
-
" الأتمتة" مصطلح فائق الجاذبيةجميل أن ينطلق النقاش حول مفهوم أو مصطلح لغوي في هذا الزمن الرديء لغوياً. " الأتمتة" هي مفردة صحيحة وكاملة الدلالة من حيث التعريب على معناها الأجنبي في الأصل :" "Automation" . " الأتمتة" مفردة تعتبر من المصطلحات المعتمدة من قبل أهم الباحثين التربويين في المجال التكنولوجي وأبرزهم الدكتور عبد الله عبد الدايم الذي يستعمل هذا المصطلح في كتبه ومراجعه التربوية. والحق يقال أن هذا المصطلح " أتمتة" تعريب فائق الجاذبية ولا سيما حين يستدرج موضوعا ً إلى علاقة الإنسان العامل والآلة وكيف أنها ( أي الأتمتة) قذفت الإنسان خلفها وباتت هي من تحركه ،وفي أغلب الأحيان إختزلته . وجب التوضيح في مجال المصطلحات.
-
أتمتةأضم صوتي - بصفتي كقارئ عادي - إلى الزميلة ضحى شمس. لكن يُفهَم (بصعوبة نسبية) من السياق أن العبارة المذكورة مشتقَّة من "أوتوماتيك". أي، تعريب لـ"automatisation". بالتالي، كان من الأفضل الإبقاء عليها وإرفاقها بشرح بسيط... مثلاً: التشغيل الذاتي. بشير صفير
-
الأتمتةالأتمتة هي تعريب مباشر Automation من أصلها اليوناني (معناها حرفياٌ تحريك الذات). قد تكون الكلمة شديدة التعقيد و لكن لا يلام الكاتب على هذا في شيء, فتخلف لغتنا يحد من قدراتنا على التعبير, و بالتالي على الوصف و من ثم على التجديد
-
مصطلحات سيئة الترجمةالزميل العزيز توقفت قراءتي لمقالتك فعليا عند هذا التعبير العجيب الغريب الذي استخدمته في منتصف المقالة:.."واعتماد الحد الأقصى من الأتمتة!" عفوا ولكن ما المقصود بهذه اللفظة؟ واضح انها ترجمة سيئه لمصطلح ما. ان هذا النوع من الترجمات يوقف اي قاريء حائرا.. خصوصا ان كانت الكلمة ضرورية لفهم بقية المقالة. يعني يعطيكن العافية ما فهمنا شي مع انو لغتي تعتبر منيحة يعني.. مع المودة.. ضحى