يطل بظلالٍ قويةٍ عبر اللغة المباشرة وضمير الأناهل المشي على الماء سلوكٌ مباشر؟ أو لغةٌ مباشرة؟ إنها المجاز لكن مجازاً غير مطلق، فالشعر العربي –خصوصاً الحديث منه مع مدارسه الأخيرة- يحبذ الإرسال المطلق للمجاز، فتبدو الأرض كبرتقالة والدنيا خيالاً بخيال، لكن الهايكو كبنيةٍ شعرية يبتعد عن هذا ليقترب من طبيعةٍ خاصة. يحاول صاحب الديوان، المزج بين الفكرتين مع الإبقاء على «عربيته» و«شرقيته» (لأن اليابان في النهاية بلدٌ شرقي) في الإطار نفسه معاً، من دون أن ينسيه هذا التجربة الإنسانية بأكملها: «الألم يبدأ/ عند آخر قطرة/ من حليب الأم»، أو «مطر النوافذ المفتوحة/ صرخات جارتي/ تبلل أحلامي»، وإذ كان المعنى في هذه الصورة «جنسياً» إلى حدٍ ما، فإن كلمة «مطر» تختلف جذرياً عن «تبلل» وإن كانت كلتاهما تحدثان فعل «الماء/ السائل» وهو ذاته تقريباً في: «أستيقظ/ فأتعثّر مجدداً/ بحلمٍ لزج». هذا المعنى يرفع لغة الديوان إلى درجة التحدي من خلال مقاطع مثل: «بقرطٍ فوق حاجبي/ أثقبُ/ صمت عائلتي» إنها لحظة المواجهة بين كل شيءٍ من عاداتٍ وتقاليد وأسس، أمام فعلٍ «بسيط» يغيّر شكل العالم. على جانبٍ آخر، وفي الصور نفسها، يظل الشاعر/ الأنا مطلاً بظلالٍ قويةٍ في الديوان، فيحكي بلغةٍ مباشرةٍ/ أنا كثيراً، لكن هذه الأنا ليست «أنا» الشخص، بمقدار ما هي «أنا» الجمع/ الكل فتكون: «أمر بمدرستي/ فلا أعثر على الطفل/ الذي كنته» أو «مدرستي مغلقةٌ/ تمر الذكريات/ تنفض الغبار» وبالتأكيد: «في يدي يد أخرى تتبدّل». هنا تستخلص التجربة فتصبح كلاً جماعياً لا حدثاً فردياً خالصاً؛ وهو ذاته ما نلاحظه عند المباشرة: «عند الباب المقفل/ يرعبني/ الباب المقفل»، إنه الخوف من المجهول البارز، لكنه أيضاً فعلٌ جماعي مشترك مع الجميع. في الإطار عينه، تأتي فكرة «العام» مع «نقرات» موسيقى أعلى، تمتزج أكثر مع الفكرة الشعرية الجمالية العامة: «تمرُ/ الطيور المهاجرة/ فتضيق السماء»، أو «امرأةٌ عارية/ على العشب/ تخرج رؤوسها السلاحف» وهو ذاته: «زجاج متجر الألعاب/ أنفٌ وعشر أصابع/ بصمات الأطفال»، هي صورة الانتظار التي يخلقها «البشر/ كل البشر» (السلاحف/الأطفال) أمام المرغوب المراد بشدة (الأنثى/الألعاب).
هو كتابٌ شعري «ناجز» كُتِبَ بمهارةٍ مرتفعة. وإن لم يكن «هايكو» مئة في المئة، إلا أن ذلك لا ينتقص من شعرية «جنازات الدمى». وهو إذ يستحق القراءة لا لأنه «مصنوعٌ بذكاء فحسب» بل لأنه شعرٌ جذلٌ جميل في زمنٍ قل فيه الشعر كما الشعراء.