«إنه شاعر لا يظهر إلا مرة كلَّ مئة عام» هذه كلمات أندريه بروتون أحد مؤسّسي المدرسة السريالية وأهمّ منظريها، في وصف الشاعر الأميركي فيليب لامانتيا (1927-2005) الذي كان في السادسة عشرة من عمره، عندما نشر له بروتون قصائد في مجلته السريالية (VVV) التي أصدرها في نيويورك أثناء إقامته في أميركا لاجئاً من النازية.فنيّاً، يتسم شعر لامانتيا بشدة التكثيف اللغوي وحِدَّة الصورة الشعرية، وتزخر أعماله بالقصائد الموجزة التي يختزل فيها اللغة إلى أقصى حد، ما يجعلها من بين أكثر القصائد كثافة في الأدب الأميركي الحديث وتذكر بدقَّة عزرا باوند وهارت كرين وإتقانهما للإيجاز.
كما تمثِّل تجربته علامةً فارقةً داخل جماعة «البِيْت» وهو في تجنُّبه الشهرة وعُزلته الاجتماعية وصعوبة تصنيفه، يُشبه بوب كوفمان. ولا يمكن، سواء من الناحية الأسلوبية أو الموضوعية، تأطيره ضمن الاتجاهات الأساسية التي انتهجها زملاؤه في «البِيْت». فهو يتنافر عنهم بارتباط نشاطه الأدبي بما يسمّى «نهضة سان فرانسيسكو» من جهة، وارتباطه بالتجربة السريالية من جهة أخرى. ولهذا يوضح ستيفن فراتالي في دراسته لشعر لامانتيا أنّ «مكانته في الشعر الأميركي تظل غريبةً. فكونهُ كاتباً من أصول إيطالية يشتغل في حقول عملٍ ونماذج فرنسية، ويكتب بالإنكليزية، ويعيش بين حافَتي أميركا الشمالية والجنوبية، جعله مختلفاً تماماً، وغريباً، وغير قابل للتصنيف».

فيليب لامانتيا (سان فرانسيسكو/ حزيران 1984 ـــ صورة خاصة من أرشيف ريموند فوي)

من الناحية الموضوعية، شهدت تجربته مراحل مختلفة تجسّد التحولات التي عاشها في ما يتعلق بمعتقداته الروحية، ومواقفه الفكرية، وخياراته في الكتابة والحياة، بدءاً من الأناركية السياسية، مروراً بالسريالية ذات النكهة الإيروتيكية، وهي فترة هيمنتْ عليها الهرمسية والغنوصية، وتعمّق في موضوعات مثل علم الفلك والفلسفة والتاريخ والجاز والرسم وعلم المصريات، التي ظهرت في ديوانه («سرير أبو الهول»، فأصبح موسوعيّ المعرفة، وصولاً إلى المرحلة التي عاد فيها إلى جذوره الكاثوليكية.
لم يحظ شِعرُ لامانتيا باهتمام نقدي جاد، رغم دوره الرياديّ في كلٍّ من حركتَي «البيت» و«نهضة سان فرانسيسكو»، فقد أوغلت قصائده في عوالم اللاوعي والأحلام، وكان لشعره السريالي تأثير كبير على شعراء «البيت» وسائر الشعراء الأميركيين الآخرين، فكتب لورانس فرلنغيتي، معترفاً بأهمية تجربة لامانتيا: «فيليب هو الذي حوَّلني إلى الكتابة السريالية» و«إنه صاحب رؤيا مثل بليك، يرى العالم بأسره في حبَّة رمل». ووصفه غينسبرغ بأنه «أميركي حقيقي، عرَّاف مثل بو، عبقريٌّ في لغة ويتمان، شريك أساسي ومعلِّم لي». مع ذلك، بقيت أعماله بعيدة عن متناول النقد الأميركي ولم تحظ سوى بالقليل من الدراسات. ولم تطبع أعماله المجمّعة إلا عام 2019 (أي بعد 14 عاماً على رحيله) وقد أسهم هو كذلك في هذا التغييب سواء في إتلافه الكثير من أعماله في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضي، أو في تجنُّبه الشهرة وانسحابه من الأوساط الثقافية. ففي القراءة الشهيرة لشعراء «البيت» عام 1956، اختار عدم قراءة قصائده الشخصية، مفضّلاً قراءة أشعار صديقه الراحل جون هوفمان الذي كان قد توفي في ظروف غامضة في المكسيك.
بيد أنه في الواقع أحد أبرز رموز الثقافة المضادة، ومن أوائل الداعين إلى تبنّي الثقافات الفرعية والهامشية. ففي تعريفه لـ «العصري»، وكيف يمكن تمييزه عن «التقليدي»، كتب: «العصري هو من لا يكون مرتهناً لشيء». وهو أول من نبَّه جيل «البيت» إلى أهمية ثقافة السكان الأميركيين الأصليين والتعريف بحياتهم وطقوسهم وتقاليدهم بعدما عاش بينهم لفترات في الخمسينيات من القرن الماضي، سواء في الولايات المتحدة والمكسيك. والواقع أنّ الدفاع عن حقوق الأميركيين الأصليين لم يبدأ بجدية إلا منتصف الستينيات عندما بدأ شعراء «البيت» يحتفون بإرث الأميركيين الأصليين وقيمهم كمصدر ملهم للحكمة. كما فتح لامانتيا الجرح القديم لأميركا عبر التذكير بإبادة الهنود الحمر في قصيدة «أورام مفرية»: «هذه أميركا المقبرة الهائلة التي لن تكتشف قطّ». كذلك أثرت ثقافة السود، ولا سيّما حفلاتهم الموسيقية التي اعتاد ارتيادها لسنوات، في تشكيل موقفه المضاد، وتشير قصيدته «جُزرُ أفريقيا» المهداة إلى رامبو، إلى الجذور الأفريقية التي تركت بصماتها على الشعر والثقافة الأميركيين. ورغم أن السريالية شكلت جوهر تجربته الشعرية، إلا أن الأناركية والاشتراكية التحررية، ولا سيما في طروحات هربرت ماركوز ظلتا أساسيتين في رؤيته الاجتماعية.
كما أن نشأته في مجتمع إيطالي (صقلي) لعائلة تتاجر بالبضائع خلال فترة الكساد، جعلته يدرك غياب المساواة الاجتماعية والاقتصادية ويستشعر الفقر وإضرابات العمال ومثالب الرأسمالية وارتكاباتها، ما قاده إلى موقفه اليساري بشأن السلطة: «بدأ وعيي بالسياسة الذي تعمق لاحقاً، منذ سن الثالثة عشرة، عندما بدأت أقرأ في المكتبة الشيوعية في ماركت ستريت». وفي رسالة كتبها إلى أندريه بريتون وهو لا يزال في السادسة عشرة، يقول: «لا يمكن للشاعر الثوري الحقيقي أن يتجنَّب مواجهة كل الأدوات الاجتماعية والسياسية الرهيبة التي تمثل مصادر الموت والاستغلال في المجتمعات الرأسمالية… رغم أنني لم أستوعب تماماً بعد مضامين العالم الخارجي، إلا أنني أشعر بالقدرة على التعبير عن التمرد والازدراء، في شعري ورأيي، لأي نظام أو نمط يمثل التفكير الآلي واستعباد الإنسان! فإلى التمرد! فهو الهدف المباشر للشعراء».
لم ينفصل انشقاقه الفكري على «النمط الأميركي» عن جذور تمرّده السلوكي منذ يفاعته. فقد طرد من الدراسة الثانوية بذريعة «الانحراف الفكري» وتطوّر هذا التمرّد ليتخذ موقفاً متكاملاً بين الرؤيا والسلوك من مجمل «العالم الأميركي». وأدى استخدام أميركا للقنابل الذرية على هيروشيما وناكازاكي إلى تنامي معارضة لامانتيا (الديموقراطية الأميركية تفضح انعدام المسؤولية الأخلاقية التي تنبع منها)، فدفعه إصراره على أن الدولة هي آلية للشر، إلى رفض التورّط في نزاعاتها، أو الانخراط في ذلك الجزء الذي يجسد أعظم شرورها: الجيش. ويعترف في رسالته إلى دائرة التجنيد والتعبئة الأميركية: أرى ما يسمّى «السلام» الذي يتبع الحرب شراً، إن لم يكن أكثر شراً من الحرب نفسها، لأنه يزرع بذور الحرب نفسها لحرب قادمة». وانسجاماً مع هذا الاعتقاد وبمساعدة أستاذه كينيث ريكسروث، أجبرت القناعة السلمية الشاعر على رفض أداء الخدمة العسكرية وتمسّك بموقف «المعترض الضميري» على الحرب. كما غادر الولايات المتحدة وأقام في أوروبا طوال الستينيات تجنباً لتجنيده في حرب فيتنام لأن «أساتذة الحرب الاقتصادية ينسجمون مع كتبهم» كما يقول في قصيدة «القيامة».
وتمثل قصيدة «ردٌّ بسيطٌ على العدو» رؤية مبكرة وفريدة لعقلية لامانتيا، فقد استبدل الاستعارات السريالية وتجاور صوره السابقة بخطاب ثوري شعاري واضح وصريح وهو يتأمَّل مآسي الحرب العالمية الثانية: «إنها سنةٌ حُبلى بالأحداث/ حيثُ نعيشُ في أمة تزدهرُ على دماءِ ملايين القتلى/ وملايين آخرين يُقتلون/ في كل مكان من العالم». وقد تبدو صورة أميركا بوصفها «مصّاصة دماء وبترول» صورة تقليدية في تراث الثقافة المضادة، لكن لامانتيا يقرنه بتسليط الضوء على الصورة المأساوية للمواطنين الأميركيين أنفسهم، مصوّراً ما يمكن للتوحش الرأسمالي أن يتركه من أثر عليهم: «يمشي الناسُ كأنَّهم في حُلمٍ سينمائي/ ويعملونَ بنظام مُرعب/ من فوضى ترفضه أجسادُهم، لكن خوفَهم يُجبرهم على قَبُوله».
اللافت أن القصيدة نشرت ضمن ديوان «قصائد أيروتيكية» (1946) الذي حاول فيه لامانتيا التعبير عن الحب الجنسي بوصفه ممارسة للمقاومة ضد «نمط الشر» في العالم، وهي القصيدة الأخيرة في المجموعة، لذلك جاءت خاتمة مثالية تلخص نموذجاً للتحريض المعاصر، الذي يجمع بين نقد صناعة الثقافة المادية والنظام الفوضوي لرأسمالية البيروقراطيين الذين يخدرون الناس ويجعلونهم يعيشون في «حلم سينمائي» ليتحول حلم هوليوود إلى كابوس ووبال لا ينتهي بالنسبة إليهم، بحيث أصبحوا لا يدركون أماكنهم داخل نظام العلاقات الاجتماعية، وبالتالي غير قادرين على تحديه. مع ذلك، يؤكد على البديل الغريزي للجسد الذي يرفض النظام الحالي للأشياء. ويتهم الولايات المتحدة بالتربُّح قبل وأثناء وبعد الحرب العالمية الثانية مباشرة:
«البيروقراطيون والأغنياءُ العاطلون/ يواصلون عهدَهم في الحرب الدائمة/ على عَرَقِ ودمِ الفقراء». ويعدُّ الصراع الطبقي، ثيمة أساسية أخرى من تراث الثقافة المضادة، لهذا كان أحد الذرائع لاتهامها بالشيوعية. تنتهي القصيدة بتحذير خطير حيث يُعلي لامانتيا صوت الإرهاصات الأولى للرعب الذري الذي جرَّتهُ كوارث هيروشيما وناكازاكي على العالم ورفعته إلى أقصى المخاطر خلال الحرب الباردة: «مهما حدثَ، ثمة شيءٌ واحدٌ مؤكَّد:/ نهايةُ عالمِ استغرقَ خلقُهُ/ مئاتِ السنينِ،/ وليسَ سِوى ثوانٍ لتدميره».
ليس البناء والتدمير هنا ماديين فقط، بل هما روحيّان كذلك، فأزمنة الخلق تجسّد مراحل سمو الروح وحين تنحط الروح يحل زمن الخراب ويصبح التدمير ذاتياً. وبما أن البشرية امتلكت القدرة على تدمير نفسها، فهي مسألة وقت، ليس إلا، قبل أن تتحقق النبوءة المشؤومة.

* شاعر ومترجم عراقي