سؤال يطرح نفسه بعد ثلاثة عقود، لماذا كان لا بدّ من أن يموت بطل الرواية «صقر عبد الواحد»؟ يضع جاك رانسيير في كتابه «سياسة الأدب» نظريتين عن قتل الكُتّاب لأبطالهم: واحدة لإنقاذ السارد في الرواية من الموت أو من الحياة المفجعة. النظرية الأقدم لإنقاذ الكاتب نفسه من هذا المصير، كان قتل الشيطي لصقر قتلاً لكل هزيمة لهذه الطبقة، لكل خذلان وضعف للذات. موت صقر يجعل منه بطلاً تراجيدياً يصنع لكاتبه أسطورة ومعنى. من منطلق آخر، كان إعلاناً عن موت مستحق لمنتج ناصر، الفقر المتعلم بالصدفة في عالم لن يستوعبه ولن يحميه.
في الرواية الثانية «صخرة هليوبوليس»، يعود الشيطي إلى عالمه من جديد، حياة الحرفيين في دمياط، حيث اشتهرت المدينة بصناعة الآثاث. يرفق العمل ببعض الفقرات عن نشأة الصناعة. ومن خلال شخصياته، يرسم ملامح سحق طبقة كبار الحرفيين لصناعة الأثاث ومن ثم للعمال، للحفاظ على مصالحهم وعلى تفاوت طبقي واضح يضمن لهم تراكماً أكبر لرأس المال.
يبدو الشيطي مدفوعاً إلى القضية الاجتماعية كهّم ذاتي مستمر بين روايتيه، ناسجاً عالماً واحداً لنصين. هنا إحساس كبير بالفقد تستشعره من صوت الراوي العليم بالشخصيات، كأنه صوت مهمش، يمارسه الراوي على نفسه من خلال تكوين صورته عبر الآخرين، ومهمش بالمعنى السياسي في مجتمعه من طبقة أعلى ومن نظام سياسي غير راعي من ناحية، وقمعي في صورته الأخرى التي تتضح في حكايات الراوي عن بيته الذي كان يقع بجوار قسم البوليس وسماعه أصوات التعذيب كل ليلة. في أحد تعريفات علم الاجتماع السياسي، يعني التهميش فقدان المرء جزءاً من ذاته وعجزه عن تعويض آخر.
الانهزام التراجيدي صار انهزاماً هادئاً
السرد في الرواية الأولى يعتمد على مونولوجات فردية مسرحية. كل شخصية تدور حول موت «صقر»، تكرّر الأحداث، وتعيد سردها من وجهة نظرها، وإن كانت الشخصيات الثلاث في جبهة صقر (يحيى، تحية وصقر نفسه) لهم نفس نغمة الصوت، طريقة الحكي، حتى ذاكرتهم واحدة، كأنهم أصوات متعددة فوضوية للبطل وليسوا شخصيات عدة منفصلة، عكس الشخصية الرابعة ناهد ابنة المستشار التي تمثل الجبهة المضادة، بصوت مختلف محدد وواضح يشبه نظرة طبقتها المحدودة كما ظهرت في الرواية. لكن في رواية «صخرة هليوبوليس»، إلى جانب اتخاذ صوت الراوي العليم في متن النص للإخبار عن أفراد العالم، إلا أنّ سرداً آخر بصوت يراوح بين ضمير المتكلم وضمير المخاطب والراوي العليم عنون باسم «كتاب أول وثان...». هذان عالمان متوازيان بين السردين في الرواية، وبطل غير موجود، أو مرتبك بين ضمائر عدة.
رغم ذلك، يبدو كل شيء بين السنوات الثلاثين التي تفصل الروايتين مستمراً. الانهزام التراجيدي صار انهزاماً هادئاً. العالم صخرة الكاتب التي يدحرجها من هليوبوليس الحي الراقي في قلب القاهرة إلى قرية نائية في محافظة دمياط ليستعيد الماضي مثل لعنة، هو نفس عالم «صقر» الذي يكون فيه أبوه بائعاً سريحاً على شواطئ المصايف. الطبقة البرجوازية يحل محلها طبقة كبار التجار في دمياط، للوقوف على تحليل كليّ لما آلت إليه الحياة ومظاهرها في هذا العالم، وإن بدا ذلك غريباً لكنه تكرار مشروع لأن السؤال لم يحل، والمجتمعات التي لا تشهد تغييراً اقتصادياً واجتماعياً جذرياً يطرح فيها السؤال نفسه إلى أن تتغير. فحتى إن انتقل صاحب السؤال إلى مكانة أكثر ثراءً، سينظر إلى العالم من موقعه القديم الذي يحمله على كتفه.