القصة ببساطة، تتناول مقتل عارضة أزياء شهيرة تدعى لولا، بعد سقوطها من شرفة منزلها في «ماي فير». تتناقل بعض الصحف المحلية أخباراً عن عملية انتحار. فرضية يرجّحها إرث من الاضطرابات النفسية التي عانت منها على مدى سنوات. إلا أن ذلك السيناريو لم يُقنع أخاها، خصوصاً أنها من المشاهير الذين تتصدر صورهم وأخبارهم وسائل الإعلام، ما قد يكون ناتجاً عن جريمة قتل متعمّدة. هكذا يستدعي المحقق الخاص كورموران سترايك للنظر في القضية. سترايك المُقاتل السابق في أفغانستان، بترت إحدى قدميه هناك، ما ترك تأثيراً في جسده وروحه. يعيش حياة غريبة، لا يكاد يتناول أي طعام باستثناء الحساء، بعدما انفصل عن حبيبته شارلوت. أما وقد طلب منه تولي قضية تلك العارضة، فستحل بعض مآزقه المادية، لكنه في المقابل سيواجه بعض المشكلات المعقدّة والغامضة، وسيعالجها على خطى شيرلوك هولمز، بطريقة تأسر مخيلة القارئ.
لغة تخون الواقع أحياناً لتقع في أحضان الشعر
في لهاث الكاتبة خلف التفاصيل، ثمة ذلك التدبير المُعجز في منحنا وقتاً تشويقياً. تُدخلنا في حالة دهليزية حيث كثافة الألغاز ونظام الإشارات، وحيث الغموض يُلهينا قليلاً عن جرائم فعلية واضحة وضوح الشمس في حياتنا العربية البائسة. نشير هنا الى الرواية البوليسية التي نجحت فيها رولينغ، والى جنس الكتابة الصعب الذي يتبدى سهلاً في الشكل. الجنس الرشيق، القابل للقطيعة مع الرواية الاجتماعية أو الغرامية أو التاريخية، أمر لم يعتده القارئ العربي بشكل عام، حيث يُطبع كتّابنا بأجناس محدّدة عن الإبداع كفيلة بجرّهم الى عملية استلاب قصوى ــ على حساب رغبتهم ربما ــ الى الكتابة الأدبية البوليسية. ولعلها الصعوبة بحد ذاتها ما تحول بين كتابنا العرب وهذا الجنس الأدبي، وتتطلب هذه مهارات لغة خاصة تمنح نفسها للحدث، وتُقدّم رشاقتها خدمة لتقنية الحبكة أو بؤرة الجريمة، في سرد متأن ومتفكر، ومفردات حاسمة تنقل تصاعد الأحداث بإطراد سلس، مطواع وغائي.
في «نداء الكوكو»، اختزال للعالم عبر شخصيتي الضحية والمحقق الى جانب مساعدتهُ الصبية روبن، التي ربطتها بالمحقق علاقة لامست الحب، ولكنها انتهت نهاية قسرية، حال انتهاء مهمة المحقق وكشفه الجريمة ومُرتكبها. هذه الطريقة المسرفة في التأليف الروائي والتركيز على تفاصيل ثانوية، قد تبدو لوهلة أولى، مجرد لعبة منهجية، ولكن في الفن البوليسي، الشكل دائماً هو أكثر من شكل، وقد تقدم الكاتبة هنا بعض الإجابة حول السؤال: ما هي الحياة الإنسانية، واين تقع القسوة ويقع الدم، واين يقع الشعر والغرابة ايضاً؟ يعرف المحقق أن الغباء موجود، وأن القاتل مهما بلغت براعته في إخفاء جريمته، سوف يقع بين يديه. لم يشتغل على تتبع حركاته بل اقتصر عمله على قراءة كل نبض وتفصيل في وجهه، وعلى رصد كل عضلة ترتجف في جسده، مستخدماً المنطق والاستنباط، بعيداً عن الترهيب الجسدي. لكن كيف عثر سترايك على القاتل؟ تقدّم لنا الكاتبة ما يشبه النهاية السيكولوجية التوضيحية على لسان المحقق سترايك نفسه. يشرح هذا الأخير بأسلوب لا يكف عن التشويق، كيف أنه وضع كل الأدلة، والملاحظات معاً للقبض عليه.
ما تؤكده الرواية أن الحب انتهى كهيكل عظمي من الذكريات الواهنة، وأنّ سمة العصر الحديث من الجشع وانعدام الرأفة، فاقمت بشاعة الجريمة، واختصرت ببشاعة أكثر تاريخ البشر إلى سلسلة من الجرائم في دوامة حقيقية من التصغير لأيّ صفة إنسانية.