الصورة الشخصية عنده مجرد مساحات منهِكة تسائل وجود الإنسان وموقعه وجدواهالصورة الشخصية عنده، رغم الألفة التي قد يبعثها المصطلح، هي مجرد أماكن ومساحات منهِكة تسائل وجود الإنسان وموقعه وجدواه. وذلك الافتتان الملتبس بوجه من تحب، سيستحيل سؤالاً متعذراً عن كيفية تجميده داخل إطار صور. لا يتوقف خان عن إيقاظ تساؤلات من تلك التي كانت تبدو مألوفة وبديهية طوال ذلك الوقت. هي الألفة ذاتها التي ستمنحها هجانة مضاعفة، كما وقوفنا أمام المرآة و«تخيل نفسك أنك شخص تقابله للمرة الأولى»، كما تقول لنا إحدى نصائحه السادية في «غير آمن» (2002). تخاطب النصائح العشر المتجاورة على الجدار الإنسان الحديث، في محاولة شكلية وبسيطة للتسلل إلى سؤال «من أنا»، واستثارة العلاقة القلقة والمهشمة مع الذات في نمط الحياة الحديثة. عبر الصور والفيديوهات والنصوص، يقدّم خان بورتريهات ذاتية وأخرى للأقارب والأصدقاء، وصوراً لشخصيات عامة ومجهولة. على الجدار الذي يفصل صالتي المعرض علق خان بورتريهاً لوالدته أمام خلفية بيضاء، يحمل عنوان «أمي» (2013). انتظر خان سنوات عدة قبل أن يتمكن من التقاط وجه أمه أخيراً بهاتفه الذكي في لحظة خاطفة. هذا التردد في حصر هذه العلاقة المركبة بين الفنان وأمه داخل إطار واحد، يسائل ممارسة التصوير الآلية، وخصوصاً للوجوه المقرّبة، التي حوّلها التطور التكنولوجي إلى ممارسة خفيفة ومستهلكة. يتخلى صاحب «17 وفي الجامعة الأميركية» (2001) عن السرد والاستفاضة في تقديم العمل الفني، لمصلحة التجريد والتكثيف الذي يجعل من «صوره الشخصية» مجرّد لحظات أو حالات نفسية ووجودية خاطفة كما في مجموعة StuffedPigFollies التي تعود إلى عام 2007. تتألف المجموعة من ست بطاقات بخلفيات صفراء مطبوعة بالحبر. على كل بطاقة رسم خنزير بتقشف بوضعيات مرتبكة مختلفة، بينما يتطاير منه رذاذ أزرق ناتج من عرق أو دموع. لا نعرف شيئاً في هذه المجموعة المجرّدة سوى أن هذه الخنازير تتكلم الإنكليزية بطلاقة، وأن أقوالها وتعليقاتها المكتوبة أسفل كل بطاقة تعبّر عن تساؤلات تبدو مقتطعة عن سياقها الواضح: «أي ساحرة؟» «أصاب بالتردد حين أرى وجهي الحي»، و«أستطيع أن أرى فقط شيئاً واحداً». يجمّد خان هذه الكائنات ويغرّبها في ذروة هوسها، ضمن خلفية مجرّدة تحول دون تصنيفها، بل تعزز تأكدنا بأنها مجرّد أطعمة لاصطياد شخصياتنا ووجوهنا. المواجهة الوحيدة بين الفنان وذاته في المعرض، نراها في تجهيز فيديو «زمان/ مكان آخر» (2001) الذي يجمع مقطعين مصورين. في هذا البورتريه الذاتي المتحرّك، يثير خان قابلية التغير الذاتي مع مرور الوقت، ومع تطور الإدراك، وتبدل العوامل الخارجية. في أعلى الشاشة، نرى الشاب اليافع بنظاراته السميكة وجديته المفرطة، وهو يتحدث عن خططه ومشاريعه لتعزيز الاقتصاد المصري، بينما يشدد على استحالة الهجرة من مصر. المقطع هو مقتطف من مقابلة أجراها تلفزيون سويدي مع خان وهو في الخامسة عشرة من عمره. أسفل الشاشة يطالعنا فيديو آخر لشاب بشعر طويل وهو يضرب أوتار الغيتار الكهربائي التي تصدر صوتاً صاخباً. لن يخطر ببال أحد أن الوجهين هما للشخص نفسه الذي هو الفنان حسن خان. بين أحلام الصبي الكبيرة والأمل الفائض في الأعلى، والصخب الذي يسكن الشاب في الفيديو الثاني، تتوالى عبارات مختلفة على الشاشة «هذه شيفرة، هذه رسالة، هذا رمز، هذه ذاكرة مجنونة مختصرة، هذا إطار، هذه لغة، هذه سياسة، هذه علاقة، هذه حسابات باردة، هذه استراتيجية... هذه إشارة». فيما يظهر الفيديو بشكل ساخر وفكاهي هلامية الشخصية وتبدلاتها القصوى واللامنطقية بين سنتين فقط، يطاول هذا العمل الجانب السياسي والإعلامي العام والدولي المتمثل بالمقابلة مع تلفزيون سويدي ضمن وثائقي بعنوان «شباب حول العالم». كأن خان يصنع من الفيديو في الأسفل الجزء المخفي لجبل الجليد الظاهر «المثالي» الذي يسعى الإعلام إلى إظهاره حول الشباب. تبدو الصورة الشخصية عند خان كحفرة لا قعر لها كما في فيديو «غ. ر. ا. هـ. ا. م» (2008). يذكّر الفيديو باختبارات آندي وارهول المصورة التي أجراها على وجوه الفنانين والأصدقاء بين عامي 1963 و1966 بكاميرا «بولكس» 16 مم. وفيما سعى وارهول إلى التقاط بورتريهات متحرّكة وبطيئة لتعابير ووجوه الممثلين والفنانين والأصدقاء بعيداً عن التأثيرات الهوليوودية، يحاول فيديو خان القبض على الحضور الداخلي لصديقه غراهام. طلب خان من الأخير الوقوف أمام الكاميرا لمدة 10 دقائق، واصل فيها خان طرح أسئلة شخصية عليه وطلب منه عدم الإجابة عنها، بل أن يكتفي بالنظر إلى عيني المستجوب. عبر تمديد الفيديو وتبطيئه إلى 14 دقيقة، صار التنبه إلى حركة غراهام أكثر صعوبة، باستثناء اللحظات التي يشعل فيها سيكارته. وفي تلك الدقائق التي كانت تستثار فيها ذكريات غراهام وأفكاره وتملأه، كان خان يتقصد التقاط ذات صديقه وحضورها. ضمن سياق هذا النوع من مساءلة ماهية الذات، يبدل خان الممارسة الداخلية في شريط «غ. ر. ا. هـ. ا. م» إلى نوع من تفريغ الذات في فيديو «جي بي أر أل» (2010) الذي يصور فيه صديقته غابرييلا دادلو داخل منزلها. في محاولة لإعطاء تصور ذهني عن الذات، اختارت غابرييلا القيام بحركات في المنزل، وتحديداً في المطبخ، حيث نقلت خريطتها عن الذات إلى حركتها الجسدية الظاهرة التي نشاهدها في الشريط. إلى جانب هذه الأعمال يتضمن «الناس داء دفين» فيديوهات ونصوص، أبرزها قصة «محمود الأنصاري» التي التقط فيها خان علاقة البشر مع المدينة، بين الماضي والحاضر مستخدماً أدواته ووسائطه بمهارة.
«الناس داء دفين»: حتى 13 تشرين الثاني (نوفمبر) ــ «مركز بيروت للفن» (جسر الواطي ــ بيروت). للإستعلام: 01/397018