ترافق الإصدار مع فيلم وثائقي و«صندوق ذاكرة» موجود بالقرب من حديقة الكرنتينا العامة
يقول صانع الزجاج الذي رمّم أغلب زجاج المنطقة بعد الانفجار أنّ هدفه كان إعادة ترميم الزجاج المكسور، ولكن أغلب السّكان أرادوا تركيب شبابيك خشبيّة. «الزجاج الجديد سيعيدهم إلى ما قبل لحظة الانفجار. حينها لم نكن موجودين»، كتب باسل. من بين كل قصص أهل المنطقة، كانت حوريّة (45 سنة) ملخّصاً لما صرنا عليه بعد 4 آب. سأل صانع الزجاج حوريّة أن تختار نوع زجاج ليرمم به النوافذ. لكن حورية لم تختر نافذة. «أريد نافذة من خشب». لم تختر أن ترمّم نافذة، اختارت أن ترمّم خوفها، تشدّ عليه، تحصره في زوايا صغيرة من المنزل ومن ذاكرتها. مع كلّ صفحة في الكتاب، هناك صورة حيّة من المنطقة بعدسة محسن الظاهر، أو رسم كاريكاتوري بريشة طوني معلوف. اللافت في الصور هو الضوء الطّاغي عليها. لم يلتقط محسن صوراً داكنة للمنطقة الميتة حرفياً. لم يأخذها بالأسود والأبيض ويحوّلها إلى ماضٍ، ولم يعكس عليها لوناً أزرق للدلالة على الأسى والسكون الذي صار طاغياً على المدينة، باستثناء صورة واحدة. صورة لركام منزل على الأرض، كتب فوقها باسل: «عندما عاد أهل المنطقة بعد نهاية الحرب الأهلية، كانت أغلب بيوتهم غير موجودة، وقليل منها كان صالحاً للسكن. لكن حتّى تلك لم تسلم من آثار الرصاص التي غطّت جدرانها. فقَدَ الناس بيوتهم وأصبحت مجرّد أنقاض نمت فوقها أعشاب وأشجار. وجدوا أنّهم شيّدوا ثكنة للجيش بالقرب من المرفأ، لا أعرف على أيّ بيت قد بُنيَت». للصّورة طابع خاص، غير كلّ الصّور. هي ملخّص لحال المنطقة كلّها. المدينة لا تنهار إلا بانهيار بيوتها، البيوت لا تنهار إلا بانهيار ناسها. المؤسف في المدينة أنّهم لم يكتفوا بهدم بيوتها وجدرانها ونوافذها. لقد عمّروا فوقها كأنّها لم تكن.
لقد ترك محسن المدينة بلونها الحقيقي، حتى تكاد تؤمن أنّه لحظة الانفجار الذي حوّل المدينة إلى سواد، ظلّت الكرنتينا ساطعة بلون شمسها. ربّما هذه كانت أمنية أمينة (38 سنة) التي ظلّت تضحك بوجه أولادها رغم الأسى الواضح على وجهها في رسم طوني معلوف. لقد منح معلوف لأمينة ما لم تمنحه الحياة لها. لقد أعطاها فرصة البكاء مرّة أخرى في لحظة الانفجار ذاتها، في لحظة قد انتهت. لقد دمل لها خوفها المهول الذي خبّأته عن أولادها لحظتها بضحكة بلهاء، لأنّه «عندما نخاف لا يسعفنا غير البكاء». أغلب العيون في رسومات معلوف تنظر إلى الأسفل، والعيون الأخرى كلّها مغلقة. وفي كلا الحالتين، لا تخلو من الأسى. ولو حوّل مسار النَّظر إلينا، لعصفت اللحظة كلّها مجدّداً في ذاكرتنا، لحظة الانفجار ذاتها. 4 آب سكن في عيوننا، خلّف أسى لا ينتهي، تحوّل إلى دموع لم نذرفها أبداً.
لم يترك باسل الأمين فرصة لحكايات هؤلاء الناس لكي تُنسى. لا يمكن أن تنسى الأسماء أو أن يُحوّل هؤلاء النّاس إلى أرقام أو أن تجمع قصصهم وتختصرها بكلمة واحدة هي: 4 آب. جعل باسل لكلّ إنسان اسمه وحكايته التي على قياسه. وفي كلّ حكاية، كان يترك شيئاً بلا نهاية ومن ثم يعقّب بما لم يستطيعوا البوح به. «هؤلاء الذين عاشوا التهميش والخوف والحروب إلى نهايتها، لم يعد في نوافذ جدرانهم أيّ درفات. يومذاك، عندما تملّكهم خوف جديد ظنّوا أنّ الحرب قد بدأت». باسل الذي لم يعش الحرب سابقاً، جرّب أن يعيشها في قلوب هؤلاء الناس، أن يرى بعيونهم. وفي أحيان كان يتحسّر عنهم، يفيض بالندم، ويلفظ ما لم يستطيعوا لفظه من أمنيات في لحظتها. «عبير (45 سنة) عندما سمعت صوت الطائرة، كانت تستعدّ لحشو الأقراص، لكن الصوت كان قوياً جدّاً إلى حدّ أنّها تذكّرت الحرب كلّها دفعةً واحدة. يا لهذه الذاكرة! ليتها استطاعت حشوها نسياناً بسهولة، كما فعلَت بالكبّة». أن تعرف المدينة بلا ناسها، يعني أن تنساها يوماً ما مهما ألفتها. النّاس هم المكان. أن تعرف الكرنتينا مع زينب، وفاطمة، وأمينة، ونادين، وأحمد، وحوريّة، ويزن، وعبير، ومريم، وربيع، وزنّاش، ويوسف، وعدنان، وعمر، ومحمد، وثريّا، وفريال، وأم عمر، وخالد، وفيصل، وسيلين، ولين، ونسرين، وشيرين، وشمسة، وكريستين، يعني أن لا تنساها. بعد قراءة «أحياء من الكرنتينا»، لم تعد المدينة كما كنّا نراها. بعد 4 آب، لم تعد المدينة كما كانت ترى نفسها. هذه لعنة.