وهنالك الكثير من الشعراء والروائيّين والفنانين التشكيليّين في غزة، الذين فشلوا في تخطّي عتبة القطاع للمشاركة في مهرجانات دولية لتمثيل فلسطين. فالكاتبة سماح حسنين بقيت سنتين تنتظر حتى تمسّ نسخة من روايتها «حرائق مدينة نائمة» المطبوعة خارج غزة بسبب الإغلاق المستمر المعابر. لم تدخل الرواية القطاع إلا عبر نقلها من خلال صديق خارجه، ولم تنجح الكاتبة في إقامة احتفال توقيع للرواية، لعدم توافر النُسخ.
تقول سماح حسنين: «لم أكن أتوقع بأنني سأُحرَم من طفلي الأول مدة عامين بسبب إغلاق المعبر، وبأنني سأرى الصورة من خلال الأصدقاء في القاهرة، أو من أماكن مختلفة في العالم، لم أكن أتخيل إحساس القهر والعجز الذي سكنني لعامين، قبل أن يُرسِل لي صديق من بيت لحم الرواية عبر البريد بعدما انطفأ الشغف، شغف الحضن الأول، شغف السفر للاحتفال بها وتوقيعها، شغف الإحساس بحقيقة الحُلم رغم مرارة الواقع». وتضيف الكاتبة الغزية: «إنها ليست معاناتي وحدي، إنها معاناة أغلب الكُتَّاب هنا الذين لا يعتبرون الحرف مجرّد حرف لغوي متجمّلاً بالكناية أو التشبيه، بل هو رسالةٌ تحتّم علينا إيصالها للعالم، ولو تطلّب الأمر معركةً طويلة نُقاتِلُ فيها وحدنا من دون الحاجة إلى مسؤولين تخلّوا عن مسؤوليّتهم بمساعدتنا».
في عام 2018، تلقّت مجموعة من الشعراء والكُتّاب الفلسطينيّين المقيمين في غزة دعوة من وزارة الثقافة الفلسطينية للمشاركة في «معرض الأردن الدولي للكتاب». بقي المبدعون في حالة تأهّب لموعد السفر، لكن تم إبلاغهم يوم السفر صباحاً بعدم وصول موافقة على تصاريح المرور إلى الضفة الغربية، وكذلك عدم الحصول على عدم ممانعة للمرور إلى الأراضي الأردنية.
يقول الشاعر حسام صبحي لنا: «كنت أتخيّل المشهد الذي سأتمكّن فيه من تمثيل بلادي فلسطين في المعرض بكامل الشغف، من خلال قراءة الشعر، فقد كانت لحظات محبطة حين تلقّيت خبر منع السفر. وبعد صمت طويل، فكرت ما الذنب الذي اقترفه الفلسطيني ليكون ممنوعاً مثل بضاعة مشبوهة، يجب عزله وإقصاء كافة أمنياته؟». ويضيف الشاعر الغزي: «الفكرة الشعرية في غزة تعتبر عبئاً رهيباً على الإنسان. بعد حروب عدة بشعة، صرنا كمبدعين خزانات للحزن لا أكثر، وتوقفت التجربة الشاعرية عند منعطف لزج شديد القتامة والصقيع. وحتى أتخطّى هذا المأزق، لا بدّ من جغرافيا جديدة ممتلئة بالورود والحياة، وهو حق ما يجب أن ندفع ثمنه لنناله عبر دفع آلاف الشواقل للمرور من المعبر إلى خارج غزة».
سماح حسنين انتظرت سنتين حتى تمسّ نسخة من روايتها المطبوعة خارج القطاع
يتحدّث الفنان التشكيلي خالد جرادة عن تجربته الخاصة مع السفر مضطراً، لسوء الحالة المعيشية والعزلة الثقافية التي تحاصر القطاع. خرج جرادة من غزة بعد دفع 1000دولار للتنسيق على معبر رفح، وهو مبلغ مرتفع جداً، نسبة لقدرات الفرد الاقتصادية في القطاع. يقول خالد جرادة: «كان عليّ أن أدفع مبلغاً للمرور عبر معبر رفح البري باتجاه مصر، والشخص المخول بإتمام التنسيق يتقاضى هذا المبلغ على مرأى من جميع الأطراف. فهذا سلوك معمول به داخل غزة، وهو نوع من الابتزاز اللاأخلاقي حول الحق في التنقل، يعدّ جريمة في العرف الإنساني، ومشهداً بشعاً للديستوبيا البشرية». ويضيف: «لقد قضيت يوماً غاية في الصعوبة خلال التنقّل بين فلسطين ومصر. كان عليّ وعلى الباقين من الأفراد الانتظار لساعات طويلة في الصالة من الجانب المصري، ليتم إدخالنا إلى أرض مصر، هذا كله في ظل ظروف مناخية قاسية من برودة ومطر». ويختم: «لقد كانت صالة الترحيل المصرية صورةً مشوهة عن العالم، مكملة لما عشته في غزة خلال سنوات عاصرت فيها الحروب البشعة. وإنني حزين لإحساسي بفكرة الهرب من المكان الذي أحبه، نحو الحياة، وفقداني حلقة الصحبة التي اعتدت عليها، والأماكن التي أعشقها».
مبدعون كثيرون في غزة يحملون قصصاً مختلفة حول معاناة تعيق احترافهم للأدب والفن، فمنهم من طبع منشوره الأول داخل غزة، ولم يستطع نقل الكتب للمشاركة في المعارض العربية المختلفة للكتب، بسبب الإغلاق البري، ما يعني أن الحصار ممتد على اللّغة والإبداع أيضاً. هذه المدينة التي تقبع في غربة عن العالم، لا تُقام فيها معارض كتب، ولا تحوي صالات سينمائية لعرض الأفلام، ويكاد النشاط الثقافي فيها أن يكون معدوماً، مع أنّها تحوي مليوني إنسان، لولا بعض الأمسيات الشعرية والمعارض الفنية التي تُقام في الغالب باجتهاد شخصي من بعض المبدعين.