قصصه مع الشاعر العراقي المشرّد أبو روزا وولف، وحدها، تكفي لتتويجه قصّاصاً استثنائياً، فالفكاهة هنا تصنعها الحياة المعطوبة بالضحك منها وعليها، فقد وجد في شخصية هذا الشاعر العراقي المتسكّع في أرصفة بيروت ودمشق «سانشو» آخر في رحلته الدونكيشوتية، فكانت تجربة مجلة «الرصيف» التي أتت كتيار شعري مضاد، ومنصّة للرصيفيين، في مواجهة الضجر الثوري. التجربة ظلّ يدافع عنها بإخلاص كخيار ثقافي حتى بعد انطفاء شعلتها ورقياً، فيما استمرّت حياته في تأصيل الهامش، فبعد استقراره النهائي في عمّان، كان يتردّد يومياً إلى مقهى «أوبيرج» الشعبي للعب الورق بصحبة أخرس وأطرش، كما لو أنه يؤلّف واحدة من حكاياته الساخرة في انضمامه إلى هذه الشلّة. وسيشكو ذات مرّة من قدره كفلسطيني، متمنّياً أن يكون من سكان القطب الشمالي كي يلهو مع حيوانات الفقمة فوق الثلج. وسيصف محمود درويش بأنه «عبد الحليم حافظ الشعر العربي» في واحدة من هزلياته ضد الثقافة الرسمية. مثلما أتى كتابة القصة متأخراً، سيقتحم فضاء الشعر لاحقاً في «لا تشبه هذا النهر»، ولكن من موقعٍ آخر، معزّزاً مفردات الهامش والرصيف، في نصوصٍ مغايرة وبريّة وصادمة «أردنا بها أن تنال من هيبة وقدسية كل ما هو سائد» يقول. لعلّ بيروت هي من أهدته هذه الروح المتمرّدة التي أغارت بغتة على طمأنينة نصوص الشعراء الآخرين، وخلخلت المشهد المستقر بتجريبية غير مسبوقة كمحاولة منهجية «لنتف لحية الشعر، شعرةً، شعرة».
برحيله القسري من بيروت إلى دمشق، استعاد مسقط رأسه «المالحة» المتاخمة لمدينة القدس، في رواية يتيمة بعنوان «الطريق إلى بيت لحم»، وهي أقرب إلى السيرة الذاتية عن جيل النكبة، ورائحة الأرض الأولى، وسوف يستكمل ذكرياته عن فلسطين بعناوين أخرى مثل «تلك الشجرة، ذلك الانحدار السحيق» في محاولة جديّة منه للملمة أشلاء الخريطة الممزقة لفلسطين الأمس واليوم بمرآته الداخلية من دون أيّ زخرفة أو هتاف، أو كما قال عنه أحمد دحبور: «لعل رسمي أبو علي من المثقفين الفلسطينيين القلائل، الذين وصل جسر التقاطع بين ما يكتبون وما يعيشون حد المرآة، فمن يقرأ رسمي أبو علي كمن يطلع عليه في المرآة، فهو إنسان بلا حسابات، ويجترح المغامرة سعيداً بالمصير الذي ينتظره، يخلط الجد بالهزل، فمزاحه جدّ، وجدّه مزاح»، فيما يرى حسان أبو غنيمة بأن رسمي أبو علي هو «رائد الخط الثالث في القصة القصيرة بعد يوسف ادريس وزكريا تامر».
قصته الأولى كانت بمثابة بيان مضاد للمدوّنة السردية الفلسطينية الغارقة في تأريخ المأساة
في سنواته الأخيرة، داهمه المرض، لكن روحه المرحة لم تغادره، إذ لم يتوقّف عن نصب الفخاخ في حكاياته الهجائية، وسخرياته التي يبنيها بمهارة لاذعة، خصوصاً بعد انخراطه في مواقع التواصل الاجتماعي، إذ وجد في حائطه على موقع فيسبوك ملاذاً رصيفياً بامتياز، يعوّض خسائر الأمس. كان آخر ما كتبه في السخرية حكاية بعنوان «كلب فيسبوكي» يروي فيها بأنه خلال رياضته الصباحية بالقرب من حيّه مرج الحمام، انتبه إلى قطيع من الماعز، من دون كلبه، إلى أن باغته الكلب بعضّه من الخلف. فيتساءل هنا: هل انتقم منه الكلب لأنه كتب قبل يومين بأن الإنسان أصله عنزة؟ الأرجح أن هذا الكلب فيسبوكي. وداعاً رسمي أبو علي الذي أهدانا موسوعة من الفكاهة المغلّفة بالألم.
في سطور
ولد رسمي أبو علي في قرية المالحة (القدس) عام 1937، وحصل على بكالوريوس المعهد العالي للفنون المسرحية في القاهرة عام 1964. عمل مذيعاً ومقدّماً ومنتجاً لبرامج إذاعية، شملت المنوعات والمسلسلات الدرامية والتعليقات السياسية في إذاعة عمان خلال السنوات 1964- 1966 انتقل بعدها للعمل إلى إذاعة فلسطين، خلال السنوات 1966-1982. علماً أنّه أخ مصطفى أبو علي، أب سينما الثورة الفلسطينية. من مؤلفاته:
«قط مقصوص الشاربين اسمه ريس» (قصص) - «دار المصير الديمقراطي»، بيروت، ١٩٨٠.
«لا تشبه هذا النهر» (ديوان شعر) - «اتحاد الكتاب الفلسطينيين»، و«دار الحوار»، دمشق، ١٩٨٤.
«الطريق إلى بيت لحم» (رواية) - «دار الثقافة الجديدة»، القاهرة، ١٩٩٠.
«ذات مقهى» (ديوان شعر) - «رابطة الكتاب الأردنيين»، عمان، ١٩٩٨.
«أوراق عمان الخمسينات» (سيرة ذاتية) - «أمانة عمان الكبرى»، عمان، ١٩٩٨.
«ينزع المسامير ويترجل ضاحكاً» (قصص) - «دار الثقافة»، رام الله، ١٩٩٩.