تلك كانت بغداد الخمسينيات، حيث في الطريق إلى المسجد العراقي، يمكن أن تذهب إلى السينما وتبقى هناك. تفاصيل كثيرة تجمع حياة ملص بحياة الزبيدي. شغفهما المتعددة، أبرزها السينما. وثانيها: الحقبة. كانت سينما «واقعية» في زمن لم تكن فيه الواقعية خياراً مثقوباً. الاهتزاز الذي أصابها من الداخل، من أجل الحرية وضدّ الاستبداد نما ببطء، لكن ضربات الدعاية صدّعتها من الخارج. ذلك لا يلغي أن الأنظمة العربية التي ابتذلت الاشتراكية الواقعية، فيما ابتذلت الأخيرة نفسها تدريجاً، كانت تتعامل مع السينما بوصفها «إنتاجاً حربياً»، أو بلغة أكثر «واقعية» من اشتراكية منتصف القرن نفسها، إنتاجاً لخدمة الأيديولوجيا، حيث حدودها مثل حدود أي شيء آخر في العقل التوتاليتاري لا يمكن أن تتجاوز الاستبداد أو أن تقترب منه. لكن ملص مثل الزبيدي، نظراً إلى ذلك الزمن من داخله لا من خارجه: «أتأمل خشب الاستديو، أفيش الجنرال الذي قلّب حكم الرئيس في أميركا اللاتينية، وصور جنرالات الناتو. أحاول بلغات الدنيا كلها، أن أخبر «بلانكي» الألماني أني بحاجة إلى ماكينة خياطة يدوية ليرافق صورة ثريا الفلسطينية في مخيّم شاتيلا». في سيرة الزبيدي التي يروي فيها ملص عبره سيرته أيضاً في بعض الأحيان، تمرّ سير كثيرة من زمن كان كثيراً وصار قليلاً. برهان علوية وكريستيان غازي وآخرون. سعد الله ونوس النظيف والرقيق. في فيلم «مئة وجه ليوم واحد» لغازي، يحضر الزبيدي «على المونتاج». في «حكاية تلّ العرب»، يحضر ونوس مع هواجسه، وأبرزها هزيمة 1967، والبحث عن بدائل للهزيمة. كان ذلك الهاجس هو نفسه الذي تمظهر ـ حسب ملص، في عرض «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» لونّوس. وهذا، كما صار واضحاً، لم يعد تأريخاً لأشخاص مروا في التاريخ، بل سيرة جيل واحد، تتقطع وتتهادى في سيرة الزبيدي كما يرويها ملص، بنص مكتوب، ينضح روحاً مشبعة بالسينما: «يناولني قيس برتقالة اسبانية لامعة وناضجة، فألتهمها بلهفة لا تفسير لها إلا المرض. مجلة «دير شبيغل» تلفّ العلم الأميركي كعمامة إيرانية حول رأس ريغن. أخرج من صالة المونتاج لأدخن. نعود إلى البيت. أستمع إلى مقاطع من قصيدة «أحمد الزعتر» بصوت محمود درويش لاختيار ما يجب تركيبه في الفيلم».
في «حكاية تل العرب»، يحضر ونوس مع هواجسه، وأبرزها النكسة، والبحث عن بدائل للهزيمة
يتوجب على الذي يقرأ السيرة، أن يقرأها بتأنٍّ، من دون أن يمزج أحداثها بالحاضر. استثمار الاستبداد في القضية الفلسطينية، ولا سيما في سوريا التي خرج منها ملص، ربما مزّق سيرة فلسطين أكثر مما مزقت الدعاية صورتها. ويبدو محمد ملص أميناً لذلك، مخلصاً للحرية، التي وجد نفسه والزبيدي إلى جانبها، ووجدوا أنفسهم إلى جانب فلسطين بجانبها. في خاتمة كتابه، لا يبدو ملص نادماً، يبدو كما لو أنه يتحدث باسم رفيق الأيام الطويلة. على مدى خمسة وأربعين عاماً مرّت، كانت تلك الأفلام لأنها الأفلام التي كان من الممكن تحقيقها. كسينمائيين كانت وطناً. لكن بلغة جريحة، كما لو أنه يخرج كلاماً عالقاً في مكان عميق في قلبه، يقول المخرج السوري: «قوبلنا بالقمع والتعسف، لأننا اخترنا بلداننا ومجتمعاتنا وقضاياها ومشكلاتها، وما تواجه من عثرات للخروج بها نحو التقدم والتغيير. لأننا رفضنا أن نكون سينمائيين منفّذين الصورة التي تطلبها الأنظمة الحاكمة». وهذا يفتح المجال أمام نقاش جديد، وسينما جديدة. في خاتمة كتابه دعوة باسم السينمائيين الحالمين، إلى جيل الحالمين، أن لا يتركوا السينما.