التناقض الظاهري بين الموقفَين، لا يمنع أن يكون كلاهما حقيقياً، ولكنّ التوضيح استدعاه استعجال ديرمر نقل المفاوضات من الغرف المغلقة إلى الإعلام، بينما الاتفاق نفسه لم يتبلور إلى الآن، بل ويمكن له أن لا يتبلور قريباً، كما ورد على ألسنة مسؤولين أميركيين في الأيام القليلة الماضية، ومن بينهم مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، الذي قال إنه من غير المتوقّع إعلان تقدّم في المفاوضات الجارية؛ «إذ لا يزال أمامنا طريق طويل لنقطعه، بالنظر إلى جميع العناصر»، مضيفاً أنه «أيضاً من غير المتوقّع حدوث أي تقدم في جهود الرياض النووية المدنية». يُضاف إلى ما تَقدّم، أن توضيح نتنياهو كان موجّهاً إلى الداخل الإسرائيلي، قبل أن يكون موجّهاً أيضاً إلى المفاوضين السعوديين والأميركيين؛ إذ جاء ليُسكِت المعارضة التي تعاملت مع مواقف ديرمر على أنها وسيلة قتالية تمكّنها من توجيه سهامها إلى رئيس الوزراء. إلّا أن حديث مكتب نتنياهو لا يلغي موقف ديرمر، والذي بدا أشبه بـ«نعم صغيرة»، مع «ولكن كبيرة جداً». وفي ذلك، الكثير من النقاط الدلالية:
أولاً، تحدّث ديرمر عن أن إسرائيل لا تمانع أن تمتلك السعودية برنامجاً نووياً مدنياً، على غرار عدد من الدول في منطقة الشرق الأوسط، مشيراً إلى أن هناك فروقاً بين برنامج نووي مدني، وآخر عسكري. وبمراجعة هذه الدول، يتبيّن أنه يقصد كلاً من الإمارات ومصر اللتين تملكان برنامجاً نووياً مدنياً، مع عمليات تخصيب خارج أراضيهما. فهل يُعد هذا شرطاً من شروط إسرائيل للقبول بالمطلب السعودي؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن البرنامج النووي السعودي سيكون شبيهاً بالبرنامج الإماراتي.
يبدو أن جولة المفاوضات الحالية حول «صفقة التطبيع» لم ترضِ أطرافها
ثانياً، أشار ديرمر إلى أن عدم الاستجابة الأميركية للطموحات النووية السعودية، سيؤدي بالرياض إلى طلب المعونة من أطراف ثالثة، مثل الصين التي تربطها بالمملكة اتفاقية في المجال النووي. وهو يشير في ذلك، إلى أن إسرائيل معنيّة تماماً بأن لا يخرج البرنامج السعودي من القبضة الأميركية، وأن لا يقع في أيدٍ «غير أمينة»، ما يعني أن الرفض لم يعُد «مبدئياً» ومطلقاً.
ثالثاً، يأتي موقف ديرمر بعد لقائه وزير الخارجية الأميركي، والذي عرض في خلاله الموقف الإسرائيلي الرسمي، ما يعني بشكل أو بآخر تطابق الموقفين. لكن كما يبدو من توضيح مكتب نتنياهو لاحقاً، لم يكُن من المفيد لإسرائيل ولوضعها التفاوضي، أن يُصار إلى كشف الموقف علناً.
على أي حال، الكرة الآن في ملعب السعودية، التي تشي المواقف الأميركية الصادرة حول رفضها الشروط الموضوعة أمام برنامجها النووي، والتي تفرّغ البرنامج من مضمونه المطلوب لموازنة البرنامج النووي الإيراني، بأنها تتطلّع ليس إلى التخصيب على أراضيها فحسب، بل وأيضاً تطوير البرنامج وفقاً للمسار الإيراني نحو السلاح النووي، وهو ما جاء على لسان ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، بقوله: «من دون أدنى شك، إذا طوّرت إيران القنبلة النووية، فإن المملكة العربية السعودية ستفعل ذلك، وفي أسرع وقت ممكن».
وفي انتظار ما ستحمله الأيام المقبلة، يبدو من كلام سوليفان أن جولة المفاوضات الحالية حول «صفقة التطبيع»، لم ترضِ أطرافها. فهل أشعر الموقف الأميركي - الإسرائيلي، المتطابق كما يبدو إزاء برنامج نووي شكلي، ولي العهد السعودي بالإهانة، فقطع عملية التفاوض من أساسها؟ لا تبدو هذه الفرضية مستبعدة، إذ إن تراجع مكانة الولايات المتحدة وانشغالها في مقارعة الأقطاب الدوليين في أكثر من اتجاه، عسكري وسياسي واقتصادي، مكّنا حتى السعودية التي كانت «طيّعة جداً»، من أن تحرد على أميركا وتشترط عليها وتهدّدها بالبدائل. لكن هل تنتهي المفاوضات مع فشل جولاتها حتى الآن؟ من غير المرجّح أن تكتفي واشنطن بهذه النتيجة، خصوصاً أن التطبيع المنشود بين السعودية وإسرائيل يرتبط بالمصالح الاستراتيجية للأمن القومي للولايات المتحدة، التي لا يعني تراجعها ضعفها بالمستوى الذي يتصوّره كثيرون.