من جهتها، انصرفت هيئة الانتخابات لتختبئ وراء الحجج التي أسعفتها بها قريحة رئيسها، فاروق بوعسكر، الذي قال إن نسبة المشاركة جاءت هزيلة، لأنه غاب عن الموعد الانتخابي المال الفاسد والرشى الانتخابية والحملات الدعائية الحزبية والصراعات بين السياسيين قبيل كل انتخابات. وإن كان في حديث بوعسكر جانب من الصواب مقارنة بحجم الأموال الهائلة التي صُرفت على الدعاية والدعاية المضادة واستقطاب الأصوات في الانتخابات الماضية أو التي سبقتها، لكن في ما قاله اتهام صريح لملايين الناخبين بأنهم مرتشون، في حين أن كثيرين منهم لم يكونوا يتوجّهون إلى صناديق الاقتراع إلّا ليمارسوا مواطنتهم ويختاروا فعلاً مَن يمثّلونهم.
سيكون برلمان سعيد شرعيّاً، بُني على انتخابات لم يصفها أحد بـ«المزورة» أو «المدلسة»
قانوناً، سيكون برلمان سعيد شرعيّاً، بُني على انتخابات لم يصفها أحد بـ«المزورة» أو «المدلسة»، خلافاً للانتخابات السابقة التي حامت حولها كثير من الشبهات. ولكن سياسيّاً لن يكون لهذا المجلس الجديد سوى شرعية مهزوزة وضعيفة، وسيزيد من حدّة عزوف التونسيين عن المشاركة السياسية. لكن في نظر سعيد، فإن كلّ ما تقدّم لا يهمّ طالما توافرت الشكليات القانونية والإجرائية. ولم يجلب الاستحقاق اهتمام التونسيين بقدْر ما تهمّهم الآن تركيبة هذا المجلس وسَيْر العمل فيه. وتفيد الأنباء الأولية، في انتظار صدور النتائج النهائية بعد استيفاء الطعون في الـ20 من الشهر الجاري، بأن جزءاً لا بأس به من القوائم التي تشكَّلت وادّعت أنها تنتمي إلى حاشية الرئيس، حصلت فعلاً على مقاعد، وأن المترشّحين الموالين أو المنتمين لأحزاب سياسية موالية للرئيس أيضاً حصلوا بدورهم على مقاعد، فيما كان النصيب الأوفر منها للمترشّحين عن جهاتهم لدواع «عروشية»، أي قبلية. ووفق ما تبيّنه الصورة الأولية، فإن هذا المجلس النيابي لن يكون إلّا توليفة فريدة لمجموعة من الموالين اقتناعاً أو انتهازية للرئيس وبعض رجال الأعمال ومجموعة من الشخصيات التي صعدت لاعتبارات قبلية ليس أكثر. أما القراءة السياسية لهذا البرلمان، إن كان ذي غالبية تقدمية أو يمينية محافظة، موال أو معارض، فهي مستحيلة إلى غاية اللحظة لهجانة وغرابة النظام الانتخابي وتصوّر الرئيس الخاص الذي فرضه على الجميع. وبملاحظة أوليّة عامة، فإن جلّ الأسماء التي تشير عمليات الفرز الأولية إلى حصولها على مقاعد، هي من عائلات فكرية محافظة وتنحى إلى الشعبوية وتتبنّى خطاب الثورة والحقوق والحريات.
ومن اللافت للانتباه، أن المعارضة امتنعت، على الأقل خلال الساعات الـ24 التي تلت انتهاء عمليات التصويت، عن الاحتفال بالهزيمة المعنوية للرئيس ومشروعه، وبدا أنها استوعبت أن الرسالة لم توجَّه لسعيد وحده، بل إن الأزمة أعمق بكثير تتجاوزه لتشمل الجميع. فعمق الإحباط الشعبي وخيبة الأمل، هي الوازع الأوّل للمقاطعة التي اتفق عليها الناخبون من دون اتفاق مسبق، وهي فحوى تبريراتهم في تدويناتهم وتغريداتهم عن أسباب إحجامهم عن المشاركة. لذلك، وجدت المعارضة، وأساساً المتكوّنة من منظومة «النهضة» وشركائها، أن تواصل صمتها، الذي بدأته أوّل ساعات الاقتراع لتنفي عن نفسها تهمة التشويش على انتخابات الرئيس، ولكنّها أُجبرت على المواصلة فيه في ما بعد. وبعد سنوات الثورة وزخْمها والحراك الاجتماعي والمواطني الذي تلاها، يستدعي «تطليق التونسيين» للسياسة تحليلات وقراءات متعدّدة، تأخذ في اعتبارها ما مرّ بهم على امتداد عشرية من أزمات وما وصلت إليه البلاد خلال الآونة الأخيرة من تبدُّل يكاد يكون شاملاً وكاملاً لنمط العيش: طبقات اجتماعية بأكملها انهارت وتآكلت، عنف وانحراف تحت صمت الدولة، مواجهة مباشرة بين التونسيين والمحتكرين وسط غياب لأيّ دور فاعل للدولة أيضاً، على رغم خطابات سعيد الرنانة، وانحدار القدرة الشرائية إلى أدنى مستوياتها في ظل تزايد غير عشوائي ومتواتر للأسعار. تعي المعارضة أن فشل سعيد في هذه الملفات يُعدّ أهمّ أسباب المقاطعة الشعبية، لذلك عليها الاستعداد جيّداً قبل تقديم نفسها كبديل له، وهي التي سبق وأن أثبتت فشلها أيضاً.