تبدو فلسطين أمام تحدٍّ وتهديد وجوديَّين، من شأنهما أن يحدّدا مصير الأجيال المقبلة فيها
في كلّ حالة من تلك الحالات، كانت الشخصيات والجهات المتموضعة على هامش القوى السياسية في إسرائيل، تُعارض «التنازل» مقابل التسويات، وتُطالب بالمضيّ في الاستيلاء على الأراضي وإنْ كانت النتيجة إدامة الصراع العسكري مع العرب. وتصدّرت الجهاتِ المذكورة، دائماً، «الصهيونيةُ الدينية»، التي ترى في «استرداد» الأرض من «الأغيار»، أو الإبقاء على ما «وطأته أقدام يهودية»، أولوية الأولويات. إلّا أن تأثير هذا التيّار ظلّ هامشياً، فيما لم يستطع فرْض إرادته على القرار الإسرائيلي. أمّا بالنسبة إلى الفلسطينيين، فقد كانت الأمور أكثر تعقيداً معهم، حيث تعامَل كلّ طرف من الأطراف الإسرائيلية، وفقاً لرؤيته، مع «اتفاق أوسلو» الذي أخذ من الفلسطينيين ما أرادتْه إسرائيل، مقابل وعود لهم بأن يُعطَوا يوماً ما أرادوه. إلّا أنه سرعان ما تَبيّن للجميع أن الجانب الفلسطيني بات، في أعقاب الاتفاق، بلا أسنان، على رغم أنه جرّب خيارات الانتفاضات على اختلافها، التي حقّقت له انسحاب الاحتلال من قطاع غزة، من دون أن ينسحب ذلك على أكثر منه. ومن هنا، لم تجد إسرائيل مانعاً من الامتناع عن مُواصلة المسيرة السياسية، بل والتراجع عمّا التزمت به في أوسلو، خصوصاً أن الانسحاب من الضفة، خلافاً لما هو الحال في سيناء التي جلب التنازل عنها تحييد مصر عن الصراع، لن يعطي دولة الاحتلال شيئاً، فيما «الديباجة» القائلة بأن التسوية تُعبّد طريق التطبيع لم تَعُد ذات صلة، ولا سيما بعدما بادرت أنظمة عربية إلى تطبيع مجّاني مع تل أبيب.
في ظلّ هذا الواقع، تنامت اليمينية في المجتمع الإسرائيلي، إلى الحدّ الذي بات معه التطرّف «الملطَّف» غير مُرضٍ للجمهور، فكان اللجوء إلى الفاشية، ومن ثمّ إلى يمين الفاشية، الممثّلة بـ«الصهيونية الدينية»، في حين باتت اليسارية، بل والوسطية، وصمة عار؛ واليمينية النسبية منبوذة هي الأخرى. ومن هنا، أظهرت صناديق الاقتراع في الانتخابات الأخيرة غلَبة الفاشيين، الذين يتّجهون إلى التحكّم بمراكز القرار، مع ما سيؤدّي إليه ذلك من تبعات، لتبْقى المؤسّسة الأمنية، وحدها، هي «الضامن»، من وجهة نظر الخبراء والمحلّلين الإسرائيليين، للحيلولة دون وقوع «الكارثة»، لا لرفض «مبدئي» لديها لإيديولوجية الفاشية وأفعالها، بل لِما تُولّده من تهديدات أمنية وسياسية. إلّا أنه، وعلى رغم كلّ الحديث عن قدرة هذه المؤسّسة على ردع الفاشيين وكبْح جماحهم، والمحاولات التي ستبذلها بالفعل لمنع تغيير الوضع القائم على خلفية إدراكها حدود القوة الإسرائيلية في مواجهة الفلسطينيين، فإن تولّي وجوه العنصرية مراكز المسؤوليات، ومنها الأمنية المباشرة، سيجعل إسرائيل، وإنْ قسراً، في مواجهة تحدّيات، ستحدّد كيفية تعاطيها معها وُجهتها للمرحلة المقبلة. وإذ سيعمد المسؤولون الإسرائيليون الجُدد إلى فعل كلّ ما باستطاعتهم كي يترجموا عنصريتهم ضدّ الفلسطينيين، فسيحاول الآخرون، بحذر، منْعهم ما استطاعوا أيضاً؛ وفي حال فشل الأوّلون في فرْض إرادتهم بفعْل ردّات فعل فلسطينية ينتظَر أن تكون على قدْر العدوان الجاري والمتوقّع، فإن الفاشية الجديدة ستنكفئ وتَسقط بإرادة الإسرائيليين أنفسهم؛ أمّا في حال نجاحها في تلك المهمّة، من دون أن تستجلب تداعيات سلبية على الأمن الإسرائيلي، فسيتراكض الجميع للاصطفاف خلْفها، وفي المقدّمة المؤسسة الأمنية نفسها.
هكذا، تبدو فلسطين أمام تحدٍّ وتهديد وجوديَّين، من شأنهما أن يحدّدا مصير الأجيال المقبلة فيها، والأمر هنا رهن بإرادة الفلسطينيين وإدارتهم للمعركة.