استطاعت إسرائيل بمعيّة السلطة إيجاد طبقة سياسية فلسطينية منقادة
على أيّ حال، ما أُعطي لعرفات من فتات مكاسب مع سلّة وعود لم يُنفّذ منها شيء، هو نفسه الذي تلقّاه خلفه محمود عباس، إنّما مع رضى وقبول منه. «أبو مازن»، على نقيض «أبو عمار»، قرن وجوده بوجود الاحتلال، وتموضع معادياً في مقابل فصائل المقاومة الفلسطينيّة، بشكلٍ مساوٍ وربّما أكثر من عداء إسرائيل لها. استطاعت إسرائيل أن تحفر عميقاً في وعي عباس، وهو ما لم تستطعه في وعي عرفات، فجاء الخلف مغايِراً للسلف، بلا تطلّعات إلى ما يُعطى، وبلا سلاح إلا التسوّل، وفي تماهٍ فعليٍّ مع الاحتلال، مهما كانت التبعات سيئة على القضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيّين. بعد رحيل عرفات، عملت القيادة الجديدة، جنباً إلى جنب تل أبيب وواشنطن، على «تأهيل» السلطة وإعادة بناء أجهزتها الأمنية والشرطية، بما يضمن انقيادها ورضوخها، من دون أيّ إمكانية للرجوع إلى العمل المقاوم، مهما كانت المتغيّرات لاحقاً. وهكذا، وجد المحتلّ ضالّته، وربما أزيَد. وإذا كانت إستراتيجية عرفات أوجدت خياراً آخر غير المقاومة المسلّحة، وهو التفاوض والتسوية لتحصيل ما أمكن من الحقوق، إلّا أن الراحل لم يَخُن المقاومين، وإن كان قاسياً عليهم. أمّا سلطة عباس فجاءت لترفع شعار المفاوضات بوصفها قدر الفلسطينيّين، وليست فقط خياراً، إلى أن باتت المقاومة في إستراتيجيّته موضع تهمة وأيضاً تخوين.
في الواقع، تحوّلت السلطة وأجهزتها من كيان مؤقّت في انتظار الحلول التسووية، كما سعى إليها عرفات، إلى كيان دائم مقزّم بصفر تطلّعات. باتت السلطة، بما هي عليه الآن، المكسب الوحيد الذي يعمل أصحابه على حفظه، حتى وإن كان الثمن هدر مزيد من الحقوق الفلسطينية، من دون أيّ مسعى إلى مكاسب إضافية، سوى مواقف وتصريحات تطالب العدو بأن يتنازل لها عمّا لا يريد هو التنازل عنه. أضحت السلطة، عملياً، فرصة بحتة، بلا تهديدات كامنة فيها، فبات الاحتلال يركن إليها ويأمن جانبها. ومع ذلك، لم تعُد ترضي القيادة السياسية الإسرائيلية التي اتّجهت وجمهورها إلى أقصى اليمين، خصوصاً مع التيقّن بأن التشبّث بالاحتلال مُجدٍ ومؤاتٍ ولا يتسبّب بأضرار ملموسة. ولذا، جزّأت إسرائيل مقاربتها إلى شقَّين اثنين: مؤسّساتي يتّصل بالأجهزة الأمنية والعسكرية، وسياسي. كانت العلاقات في المستوى الأول تسير من دون أيّ عراقيل تُذكر، وبدا التعاون قوياً إلى حدّ التماهي، خصوصاً ضدّ المقاومة الفلسطينية التي لحقها أذى من السلطة أكثر ممّا لحقها من الاحتلال نفسه، عبر «التنسيق الأمني» الذي تتسابق بموجبه أجهزتها على رعاية الأمن الإسرائيلي ومنع أيّ إيذاء له. أمّا على المستوى الثاني، فكانت السلطة وقيادتها موضع انتقاد دائم، و«شمّاعة» يعلَّق عليها أيّ فشل سياسي إسرائيلي، حتى وإن كان على خلفيات ودوافع داخلية، بل إن الانتقادات وصلت إلى حدّ المطالبة بإسقاط السلطة وإنهاء وجودها، بما يشمل إذلال قياداتها وأجهزتها الأمنية، والتضييق على فتات مكاسبها.
هذا الإذلال الدائم لم يدفع قيادة السلطة إلى الانتفاض على شريكها، بل كانت ردّة الفعل مزيداً من التنسيق. سلطة كهذه أكثر من مؤاتية للاحتلال: طواعيّة أمنية وعسكرية واستخباريّة بما يحفظ أمنه، مع شبه تيقّن إسرائيل بعدم تكرار أفعال عرفات وانقلابه على خياراته الابتدائية على رغم توقّف مسار التسوية، بل بات مجرّد الحديث عن المسيرة السياسيّة مُداناً ومستهجناً في إسرائيل. وفي الوقت نفسه، يمكن لمن شاء في الكيان العبري انتقاد السلطة، ومطالبتها بما يشاء، وهو أدنى ما يتوقّعه الجمهور الإسرائيلي من سياسيّيه، بما يشمل المطالبة بالتخلّي عن أدنى حقوق الفلسطينيين، ليس باعتبار التخلّي عن الحقّ تنازلاً، بل واجباً عليها بلا مقابل. أيضاً، استطاعت إسرائيل، بمعيّة السلطة نفسها، إيجاد طبقة سياسية فلسطينية منقادة ومستعدّة للتخلّي حتى عمّا لا يمكن لعباس نفسه أن يتخلّى عنه. وهي طبقة يتنافس رجالاتها، من الآن، على نيل رضى الاحتلال، حتى قبل رحيل محمود عباس، وعلى ذلك تبني تل أبيب إستراتيجيّاتها للآتي. وبالنتيجة، لا مبالغة ولا تحامل، إن قيل إن السلطة، فعلياً، هي كيان حافظ لأمن إسرائيل، لا يقلّ فاعلية وتأثيراً وإيجابية عن أجهزة العدو نفسها.